المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة: أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم؛ وذلك دليل على تفضيله عليهم، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال: ((أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] قال الآخرون: إن سجود الملائكة كان امتثالاً لأمر ربهم، وعبادة وانقياداً وطاعة له، وتكريماً لآدم وتعظيماً، ولا يلزم من ذلك الأفضلية، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام تفضيل ابنه عليه، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالاً لأمر ربهم.
وأما امتناع إبليس، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه، وهذه المقدمة الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها: والفاضل لا يسجد للمفضول! وكلتا المقدمتين فاسدة:
أما الأولى: فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته، ولهذا خان إبليس عنصره، فأبى واستكبر، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه، ونفع آدم عنصره في التوبة والاستكانة، والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب المغفرة، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل، وما دنا منه ينبت ويزكو، وينمي ويبارك فيه، ضد النار.
وأما المقدمة الثانية: -وهي: أن الفاضل لا يسجد للمفضول- فباطلة، فإن السجود طاعة لله، وامتثال لأمره، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر، لوجب عليهم الامتثال والمبادرة، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه، وإنما يدل على فضله، قالوا: وقد يكون قوله: ((هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62]، بعد طرده لامتناعه عن السجود له، لا قبله، فينتفي الاستدلال به.
ومنه: أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات، والأنبياء لهم عقول وشهوات، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع، كانوا بذلك أفضل.
قال الآخرون: يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة، وتحمل العبادة، وترك الونى والفتور فيها، ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم، مع طول مدة عبادة الملائكة.
ومنه: أن الله جعل الملائكة رسلاً إلى الأنبياء، وسفراء بينه وبينهم، وهذا الكلام قد اعتد به من قال: إن الملائكة أفضل، واستدلالهم به أقوى، فإن الأنبياء المرسلين، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم، فإن الرسول الملكي يكون رسولاً إلى الرسول البشري.
ومنه: قوله تعالى: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا))[البقرة:31]، الآيات. قال الآخرون: وهذا دليل على الفضل، لا على التفضيل، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله، وليس الخضر أفضل من موسى، بكونه علم ما لم يعلمه موسى، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر، وتزودا لذلك، وطلب موسى منه العلم صريحاً، وقال له الخضر: إنك على علم من علم الله، إلى آخر كلامه. ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان -عليه السلام- علماً.
ومنه: قوله تعالى: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[ص:75].
قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلتم: هو من ذريته، فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: {ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار}، {يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة}. فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟!
ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: [[ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم..]] الحديث، فالشأن في ثبوته، وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات.
ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الملائكة قالت: يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها، ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا، فاجعل لنا الآخرة؟ قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان} أخرجه الطبراني . وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم، أنه قال: أخبرني الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الملائكة قالوا...}، الحديث، وفيه: {وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا. فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا.}. والشأن في ثبوتهما، فإن في سنديهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟ قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور، إذ أطمعه في أن يكون ملكاً بقوله: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ))[الأعراف:20].
فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة، يشهد لذلك قوله تعالى، حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: ((وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف:31]. وقال تعالى: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50].
قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفوس: أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة، خصوصاً العرب، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً]
اهـ.
  1. سجود الملائكة لآدم

  2. رد المخالفين على دليل تفضيل الأنبياء على الملائكة