المادة    
إلى أن قال: "وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة"، وقد ذكر المصنف رحمه الله هنا أن هذا القول ينسب إلى أهل السنة، وذلك حين قال: "وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر أو الأنبياء فقط على الملائكة".
وقال ابن تيمية: "وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر، وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع فيهما بشيء"، والمصنف هنا يقول عن هؤلاء: "ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً".
ويقول ابن تيمية: "وحكي عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة "، والمصنف يقول: "وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة، وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية" يقول شيخ الإسلام "وربما حكي ذلك عن بعض من يدعي السنة ويواليها" وعبارة شيخ الإسلام أدق لأن عبارة المصنف توحي بأن كلمة أهل السنة تشمل هذه الطوائف جميعاً، وشيخ الإسلام عبر عنهم بلفظ: (بعض من يدعي السنة ويواليها)؛ لأنه ليس كل من ادعى السنة ووالاها فهو من أهلها حقيقة.
يقول: "وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال: أما الملائكة المدبرون للسماوات والأرض وما بينهما والموكلون ببني آدم، فهؤلاء أفضل من هؤلاء الملائكة. وأما الكروبيون الذين يرتفعون عن ذلك، فلا أحد أفضل منهم" جعل الملائكة نوعين: الملائكة المدبرين، أي: الذين يدبرون هذا الكون بإذن الله تعالى والملائكة الكروبيين: وهم المقربون في الملأ الأعلى مثل حملة العرش. فهذا القائل جعل بني آدم الصالحين أفضل من الملائكة المدبرين، وأما الكروبيون فلا أحد يفضل عليهم.
يقول: "وربما خص بعضهم نبينا صلى الله عليه وسلم، واستثناؤه من عموم البشر، إما تفضيلاً على جميع أعيان الملائكة أو على المدبرين منهم أمر العالم"، أي أن بعض الناس خص النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله أفضل من جميع الملائكة فرداً فرداً ومنهم الكروبيون.
يقول شيخ الإسلام: "هذا ما بلغني من كلمات الآخرين في هذه المسألة"، فقول ينسب لـأهل السنة وقول للمعتزلة، وقولان للأشاعرة، وبعض أقوال تحكى عن الصوفية أو بعض من يدعي السنة ويواليها.
  1. سبب خوض شيخ الإسلام في مسألة التفضيل بين البشر والملائكة

    يقول: "وكنت أحسب أن القول فيها محدث، حتى رأيتها أثرية سلفية صحابية، فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها، فقلنا حينئذ بما قاله السلف " ولو كانت المسألة محدثة لأعرض شيخ الإسلام عنها، لكن قد تكلم فيها السلف، وهم لا يتكلمون إلا فيما فيه خير وفضل ويستحق أن يتكلم فيه، وإلا أعرضوا عن الكلام فيه، ونِعم ما قال! وهي قاعدة: فالمسألة إذا لم تجد للسلف فيها قولاً فاعلم أنها محدثة، ثم إذا نظرت ما قاله العلماء فيها، فإن قال أحد منهم قولاً فخذ به، ولا تغل في مسألة فتجعلها مسألة موالاة ومعاداة.
    وقد جاء في كلام المصنف قوله: "وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه: (الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك، قال في آخره: "اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب". انتهى والله الموفق للصواب" وهذا الكلام مخالف لما قرره شيخ الإسلام، والصحيح أن القول بأن هذه المسألة من بدع الكلام -بإطلاق- غير صحيح، فهي (أثرية سلفية صحابية)، ونقول: إن كان الشيخ الفزاري يقصد التوسع في تفصيلاتها حتى يخوض أهلها في الكلام المذموم فنعم، أما أصل المسألة فلا.
  2. دليل تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الكائنات

    ويبرهن شيخ الإسلام رحمه الله على أنها أثرية سلفية، أي: مأثورة في كتب السلف والأثر فيقول: "فروى أبو يعلى الموصلي في كتاب التفسير المشهور له عن عبد الله بن سلام -وكان عالماً بالكتاب الأول والكتاب الثاني، إذ كان كتابياً، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخاتمة، ووصية معاذ عند موته؛ وأنه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغى العلم عندهم... قال: [[ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم. -الحديث عنه- قلت: ولا جبرائيل ولا ميكائيل؟ قال: يا ابن أخي! أو تدري ما جبرائيل وميكائيل؟! إنما جبريل وميكائيل خلق مسخر مثل الشمس والقمر، وما خلق الله تعالى خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم]]" قال الشيخ الأرنؤوط : "أخرجه الحاكم في المستدرك (4/568) وصححه، ووافقه الذهبي وهو كما قالا". هذا الأثر ذكر ابن كثير قريباً منه في تفسيره لقوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا))[الإسراء:70] وأشار إلى الخلاف في هذه المسألة، وكذلك ذكر ابن كثير حديثاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص ولفظه: {ما أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم؟ ...} الحديث، قال: وهو منكر جداً أو غريب جداً.
    يقول شيخ الإسلام : "وروى عبد الله في التفسير وغيره عن معمر عن زيد بن أسلم أنه قال: {قالت الملائكة: يا ربنا! جعلت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون، فاجعل لنا الآخرة! قال: وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان}".
  3. الكلام على حديث ابن عمرو

    وقد ذكر المصنف حديث ابن عمرو الذي ذكره شيخ الإسلام بلفظ مقارب فقال: "ومنه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الملائكة قالت: يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان}" أخرجه الطبراني ولم يذكر فيه لفظ: (وعزتي) وقد ذكرها ابن كثير في تفسيره .
    والمعنى أن الملائكة تطلب من الله أن يجعل طبائعهم كالبشر ليكون لهم مثلهم من النعيم في الآخرة.
    قال: "وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل في كتاب السنة وذكره ابن كثير رحمه الله في التفسير" ... وفيه : {وينامون ويستريحون، قال الله تعالى: لا. فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا}".
    يقول المصنف عن حديثي عبد الله بن عمرو : "والشأن في ثبوتهما، فإن في سندهما مقالاً وفي متنهما شيئاً" ولكن شيخ الإسلام يصحح سند الحديث كما في بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة وأهل الإلحاد (ص:224)، تحقيق الدكتور موسى الدويش قال: "وثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمرو أن الملائكة قالت: {يا ربنا! قد جعلت لبني آدم ...} الحديث فجعل إسناده على شرط الصحيح، وفي تحقيق الأرنؤوط للكتاب (ص:305) رقم (352) قال: "ضعيف كما أشار إليه المصنف، وأما تعقب الشيخ أحمد شاكر عليه بقوله: هكذا أعل الشارح الحديث إسناداً ومتناً وما أصاب في ذلك السداد؛ إذ قصَّر في تخريجه. أما رواية الطبراني فإنها ضعيفة حقاً بل غاية في الضعف، فقد نقلها ابن كثير في التفسير (5/206) بإسنادها من المعجم الكبير، ونقلها الهيثمي في مجمع الزوائد (1/82) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو كذاب متروك. وفي إسناد الأوسط طلحة بن زيد، وهو كذاب أيضاً، فهذان إسنادان لا تعبأ بهما. قلت" وهذا الذي ذكره الأرنؤوط هنا مأخوذ من كلام الشيخ الألباني "ولكن الحديث رواه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي (ص:34) بإسناد صحيح مطولاً: عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا الإسناد لا مغمز فيه، وقد أشار إليه الحافظ ابن كثير في التاريخ (1/55) مختصراً، من رواية عثمان بن سعيد، وأشار إلى صحته.
    وأما رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل، فإنها من زياداته في كتاب السنة الذي رواه عن أبيه (ص:148 من الطبعة السلفية بـمكة فقال عبد الله : حدثني الهيثم بن خارجة، حدثنا عثمان بن علاق، وهو عثمان بن حصن بن علاق " وكتب في المطبوعة: محصن! خطأ. سمعت عروة بن رويم يقول: أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ... فهذا إسناد ظاهره الصحة أيضاً، وإن لم أستطع الجزم بذلك؛ لأن عروة بن رويم لم يصرح فيه بأن الأنصاري الذي حدثه به صحابي، فجهالة الصحابي لا تضر، وهو يروي عن أنس بن مالك الأنصاري، فإن يكنه يكن الإسناد صحيحاً. وهذا محتمل جداً، وإن كنت لا أقطع به.. فإن الحديث ذكره ابن كثير في التفسير (5/206 - 207) نقلاً عن ابن عساكر، بإسناده إلى عثمان بن علاق : سمعت عروة بن رويم اللخمي، حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ...، فهذا قد يرجح أن الأنصاري في رواية عبد الله بن أحمد هو: أنس بن مالك الأنصاري، ولكن إسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحته من ضعفه.
    وأياً ما كان فرواية عبد الله بن أحمد ورواية ابن عساكر تصلحان للاستشهاد، وتؤيدان صحة حديث عبد الله بن عمرو بإسناد الدارمي .
    أما إعلاله من جهة المتن والمعنى فإنه غير جيد ولا مقبول؛ فإن الملائكة لم يعترضوا بهذا على ربهم، ولم يتبرموا بأحوالهم، وإنما سألوا ربهم، وهم عباد مطيعون، يرضون بما أمرهم الرب تبارك وتعالى إذا لم يستجب دعاءهم. ومثال ذلك الآيات في خلق آدم في أول سورة البقرة: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))[البقرة:30] قلت: فلا ترى فيه ما ينهض على تصحيح الحديث، وإليك البيان بإيجاز".
    الشيخ الألباني ينقل كلام الشيخ أحمد شاكر : " 1- أما قوله في طريق الدارمي : وهذا إسناد صحيح لا مغمز فيه، وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى صحته. ففيه نظر لأمرين:
    الأول: أننا لا نسلم بصحته مع وجود عبد الله بن صالح في طريقه، فإنه وإن كان البخاري أخرج له في صحيحه، فهو متكلم فيه من قبل حفظه، ولا يتسع هذا التعليق للإفاضة في ذكر أقوال الأئمة فيه، فحسبنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته من التقريب، وهو إنما يذكر فيه عادة خلاصة أقوال الأئمة فيمن يترجمه، قال: صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة" قال -أي: أن شيخ الإسلام رحمه الله لما قال "بإسناد على شرط الصحيح" فذلك لأن عبد الله بن صالح من رواة الصحيح" فهو من رواة البخاري، لكن عبد الله بن صالح فيه كلام، لم يرو له البخاري على إطلاقه؛ لأنه ثَبْتٌ في كتابه لكن له أوهام.
    "الثاني: أننا لا نسلم أيضاً أن ابن كثير أشار إلى صحة الحديث، وذلك أن غاية ما قال فيه: (وهو أصح) وهذا القول لا يفيد تصحيحاً مطلقاً للحديث، بل تصحيحاً نسبياً، وهو لا ينافي ضعفه كما في قول الترمذي في كثير من الأحاديث: وهو أصح شيء في الباب. فهذا لا يؤخذ منه صحة الحديث كما هو مقرر في (المصطلح) فكذلك قول الحافظ ابن كثير هنا، والله أعلم.
    حديث عبد الله بن أحمد بسنده عن الأنصاري فلا شك في عدالة رواته باستثناء الأنصاري، وإنما البحث في كون الأنصاري إنما هو أنس بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه إن كان هو فالحديث متصل الإسناد صحيح كما قال الشيخ أحمد شاكر، لكن استئناسه على ذلك برواية ابن عساكر التي نقلها عن تفسير ابن كثير، مما لا يصلح له؛ لأن ابن عساكر أورده (15/66/1-2) من طريق محمد بن أيوب بن الحسن الصيدلاني، وفي ترجمته ساق الحديث، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ودونه جماعة لم أجد من ترجمهم، فمثل هذا الإسناد الواهي لا يترجح كون الأنصاري هو أنس، على أنني قد وقفت له في ابن عساكر على طريق أخرى ضعيفة أيضاً سُمي فيها الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، أخرجه (9/407/2) من طريق هشام بن عمار : نا عبد ربه بن صالح القرشي قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر بن عبد الله الأنصاري مرفوعاً به. والقرشي هذا لم أجد له ترجمة، وهشام بن عمار وإن أخرج له البخاري فهو متكلم فيه أيضاً، قال الحافظ في التقريب : صدوق مقرئ، كبر فصار يتلقن. وجملة القول: أن حديث ابن رويم هذا ضعيف لجهالة الأنصاري واضطراب الروايتين الأخيرتين في تعيينه، فأولاهما تقول: إنه أنس، والأخرى تقول: إنه جابر، ولا يصلح عندي تقويته بحديث عبد الله بن صالح لاحتمال أنه مما أدخل عليه، قال ابن حبان : كان في نفسه صدوقاً، وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له، كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله، ويرميه في داره بين كتبـه، فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به!.
    هذا ويحتمل أن يكون أصل الحديث من الإسرائيليات التي كان يحدث بها بعض الذين أسلموا من أهل الكتاب، ثم أخطأ بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما صنعوا بقصة هاروت وماروت. والله أعلم".اهـ
    على كل حال: كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا السند على شرط الصحيح، وكون الصحابي أنساً أو جابراً ليس إشكالاً، فالمراد أن يكون صحابياً كائناً من كان، وإن كانت رواية ابن عساكر ضعيفة أو اختلف في تحديد الصحابي، فهذا أمر يسير، والحديث صحيح متصل إسناده كما ذكر الشيخ الألباني، فعلى ذلك يصح لنا أن نقول: إن هذا الحديث صحيح.