المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر أو الأنبياء فقط على الملائكة، وإلى المعتزلة تفضيل الملائكة.
وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً. وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة. وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية، وقالت الشيعة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة.
ومن الناس من فصل تفصيلاً آخر، ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر: إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض، وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة لقلة ثمرتها، وأنها قريب مما لا يعني و {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.
والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصداً، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب، وعَدَّ منها التفضيل بين الملائكة والأنبياء، وهذا هو الحق، فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل؛ فإن هذا لو كان من الواجبات لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))[المائدة:3]، ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا))[مريم:64] وفي الصحيح: {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها} فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً وإثباتاً -والحالة هذه- أولى.
ولا يقال: إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة؛ لأن الأدلة هنا متكافئة على ما أشير إليه إن شاء الله تعالى.
وحملني على بسط الكلام هنا: أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم: كان الملك خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إن بعض الملائكة خدام بني آدم. يعنون الملائكة الموكلين بالبشر، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع المجانبة للأدب.
والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس: لا شك في رده، وليس هذه المسألة نظير المفاضلة بين الأنبياء، فإن تلك قد وجد فيها نص، وهو قوله تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ))[البقرة:253] وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ))[الإسراء:55] وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ: (وسيد المرسلين) يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
والمعتبر رجحان الدليل، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه، بعد أن تكون المسألة مختلفاً فيها بين أهل السنة، وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولاً بتفضيل الملائكة على البشر، ثم قال بعكسه، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله.
والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل لا على الأفضلية ولا نزاع في ذلك.
وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه (الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك )، قال في آخره: اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد. ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب. انتهى.]
اهـ.
  1. نقل فتوى موجزة لشيخ الإسلام في المفاضلة بين البشر والملائكة

    الشرح:
    هذه المسألة ليست من المسائل المهمة التي يترتب عليها عمل أو اعتقاد، أما وقد عرضها رحمه الله فلابد من فهمها، وقد رأيت أن عرضها يفيدنا من ناحية أخرى، وذلك بعد أن قرأت ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله حول هذه المسألة الذي لخص منه المصنف هذه العشر الصفحات تقريباً في الموضوع وهي: معرفة كيفية تناول الأدلة، واستنباط المسائل من الأحاديث وأقوال العلماء، وأخيراً: كيفية الترجيح، فهي ليست قضية اعتقادية أو علمية ذات أهمية، لكنها قضية تطبيقية لمنهج الاستدلال العلمي الصحيح، ونحن طلبة العلم أحوج ما نكون إلى هذا المنهج لأننا قد نستدل بالآية أو الحديث، وهو لا يدل على ما نريد الاستدلال عليه، أو أن غيرنا قد يستدل علينا بدليل فنوافقه، مع أنه في الحقيقة غير موجّه ولا يستدل به، ولا يثبت، وذلك لقلة بضاعتها مع نقص الخبرة والمراس على الاستنباط وكيف نقارع الحجة بالحجة مع البرهان العلمي.
    وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة مناقشة علمية جادة، ومقارنة رائعة عظيمة في مسألة كأن الأدلة فيها متكافئة، في مجموع الفتاوى في (ج:4 ص:343)؛ حيث أفتى شيخ الإسلام رحمه الله بفتوى موجزة، وثم بعد ذلك فصلها في فتوى أخرى طويلة، ولعل كلام المصنف هنا ملخص منها.
    أما الفتوى الموجزة فهي: "سئل شيخ الإسلام عن (صالحي بني آدم، والملائكة) أيهما أفضل؟!"
  2. تفضيل الملائكة باعتبار والبشر باعتبار آخر

    فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى -منزهين عما يلابسه بنو آدم- مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر" فالملائكة يسبحون بالليل والنهار لا يفترون، وهم لا يسأمون ولا يملون من عبادة الله سبحانه وتعالى، فهم باعتبار الحال الواقع الآن أفضل من صالحي بني آدم.
    أما باعتبار النهاية فيقول: "وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة، فيصير صالحو البشر أكمل من حال الملائكة" لأن بني آدم إذا دخلوا الجنة فإنهم: {يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس} فيصبحون في تسبيح وعبادة مطلقة لا معصية فيها، ويخرجون عن الطور الإنساني المعروف من ارتكاب ما تمليه الشهوات من الموبقات، ويصبحون في حالة من العبادة كحال الملائكة، ولهم زيادة على ذلك أنهم في الحياة الدنيا كابدوا الشهوات، واتقوا الله سبحانه وتعالى، وعصوا إبليس، فلهم الآن حال وفيما بعد حال آخر، بينما الملائكة في حال واحد.
    قال ابن القيم: -(قال ابن القيم: ...) هذه الكلمة ألحقت بالفتوى ولم يقلها شيخ الإسلام- "وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه".
    هذا هو الجواب المجمل، والخلاصة النهائية لهذه المسألة.