مباركة الغرب لنشوء التطورات القومية في العالم العربي
ثم تطورت الحركة القومية وجمعية الفتاة العربية -وكانت هناك: جمعية مصر الفتاة، والعربية الفتاة- فأرادوا تأسيس رابطة قومية تجمع العرب، وبارك هذه الرابطة وشجعها؛ بل هو الذي اقترحها في الأصل كمنظمة: إنطوني إيدل ، وقد كان وزير خارجية بريطانيا ، ثم رئيس وزراء بريطانيا ، فاقترح فكرة إنشاء جامعة الدول العربية، فأنشأ بروتكول أسكندرية، ثم جامعة الدول العربية، وكان الذين أثبتوها ووقعوا ميثاقها هم أصلاً -قبل قيام هذه الجامعة- كانوا أعضاء في جمعية العربية الفتاة، وأشباهها من الجمعيات التي كانت قائمة في ذلك الزمن، ومن أوضح الكتب على هذا كتاب نشأة القومية العربية لـمحمد عزة دروزة ، وهذا الكتاب موجود ويباع، كان مؤلفه واحداً منهم، وكذلك كان الشاعر خير الدين الزركلي صاحب الأعلام وواحداً من هؤلاء القوميين، وشعره وحياته يظهر فيها هذا الشيء، وغيرهم كثير.فكانت بلاد الشام هي الأساس، وكان رئيس بلاد الشام شكري القوتلي كان من الجمعية العربية الفتاة، ووقع ميثاق جامعة الدول العربية، فنشأ الفكر القومي بعد ذلك؛ حتى قام الحزب البعثي، واستطاع حزب البعث بقيادة ميشيل عفلق أن يؤسس فكرة عقدية قوية جداً تحكم الآن العراق و سوريا ، ولهم وجود قوي في ليبيا و السودان ، وهم الآن تقريباً أقوى حزب في موريتانيا .وبعد الحرب العالمية الثانية نسيت في أوروبا القوميات تماماً، فأصبحت تكتلات عقائدية وعسكرية، وأصبحت أوروبا -في الحقيقة- معسكرين: حلف وارسو، وحلف الناتو، أو شمال الأطلسي، وحلف شمال الأطلسي يضم الولايات المتحدة الأمريكية ، ومعها دول غرب أوروبا كلها، على اختلاف مذاهبها الدينية، وقومياتها، فأصبحت كتلة واحدة، وأصبحت أوروبا الشرقية الشيوعية -على اختلاف أجناسها، وأعراقها- كتلة واحدة، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في عام (1945م).وبعدها وقع ميثاق جامعة الدول العربية، ثم ظهر وتأسس حزب البعث، وقد كان المعسكر الشرقي معسكراً اشتراكياً، فاندمجت الفكرة الاشتراكية في الحركات القومية والوطنية؛ لأنها كلها مستوردة من الغرب، فقامت الثورة المصرية، وحولها جمال عبد الناصر من فكرة وطنية إلى فكرة قومية؛ ولذلك لا تجد قبل جمال عبد الناصر في مصر إلا إشارات إلى العرب، أو العروبة ككل، وكانت الفكرة راسخة في مناهج التعليم، وفي الصحافة والإعلام، والشعر والشعارات هي الوطنية والفرعونية .. إلى آخره، فالمهم أن تكون وطنياً مصرياً، فأنشأ جمال عبد الناصر إذاعة صوت العرب، والصحافة العربية، والفكر العربي، والأمة العربية من المحيط إلى الخليج وغير ذلك، فأجج الفكر العربي القومي.وفي المقابل أيضاً جاء البعثيون بشعار: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، فهذا هو شعار حزب البعث، فبدءوا ينشرون هذا المبدأ، وأخذ الصراع يشتد بين هؤلاء وهؤلاء، مع أن جمال عبد الناصر دعا إلى الاشتراكية مع القومية العربية، وأولئك دعوا إلى الاشتراكية مع الوحدة العربية، فالثالوث الذي جعله ميشيل عفلق بدل الأب، والابن، وروح القدس؛ جعل الوحدة، والحرية، والاشتراكية.فهؤلاء اشتراكيون، وهؤلاء اشتراكيون، لكن هناك خلافات حزبية بينهم، واختلاف في الولاءات: فهذا مع الغرب، وهذا مع الشرق؛ كان على أشده، والذي يجمع الجميع: أنهم لا يريدون الإسلام، والغرب -سواءٌ كان شرقاً أو غرباً- لا يريد أن يكون هناك أي تجمع باسم الإسلام، كما عبر براز بلويس وغيره بأوضح ما يمكن: أن الغرب أراد هذا بوضوح، أي: أراد ألا تكون هناك أي رابطة، أو جامعة إسلامية، وإنما يكون المبدأ القومي هو الذي يجمع هذه الشعوب جميعاً.وتحت شعار الحركة القومية، والحركة البعثية نشأت أيضاً في دول أخرى مثل: دول الجزيرة العربية ؛ نشأت الفكرة الوطنية التي لم تكن معروفة من قبل، ففي هذه البلاد، وفي عمان ، وفي بلدان الخليج ، و اليمن لم يكونوا يعرفون على الإطلاق فكرة التفاخر بالحضارات القديمة، وبالوطنية، ولا يعلمون عنها أي شيء؛ فضلاً عن القومية، فنجد أن القوميين تبنوا إحياء هذه الحضارات والآثار القديمة؛ وحتى الوثنيات القديمة، بل مع أنهم يدعون القومية العربية، ويتعصبون للغة العربية؛ فقد أحيوا ما يسمونه: بالتراث الشعبي، والأشعار النبطية، وما أشبه ذلك، وهذه كلها عوامل تفتيت، فالأمة الإسلامية تفتت إلى قوميات، والقومية تفتت إلى وطنيات، والوطنية تتفتت إلى قبليات، وإلى حزبيات، وإلى حضارات مختلفة، فهنا حضارة عاد، وهنا حضارة ثمود وغير ذلك، كل هذا بغرض تفريق وتمزيق الأمة الإسلامية، ورابطة الولاء، فأصبح الإنسان لا يوالي ولا يعادي إلا فيما يعتقد من قومية، أو وطنية.وقد كان الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله أكثر كلامه -إن لم يكن كل كلامه- يصب في حرب الماسونية، وهؤلاء القوميين المجرمين، وخاصة: إذا ما روج للشعارات القومية إلى حد لو أن أحداً يذكر الدين، أو يقول: إن هذا العربي ليس مسلماً؛ فإنه ينكر أشد الاستنكار في أي مكان، وأصبحت كل الأمور عربية، ورسخت فكرة القومية العربية حتى قال شاعرهم: سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ هبونيَ عيداً يجعل العرب أمة وطوفوا بجثماني على دين برهمِ بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صمِ وإلى آخر هذا الكلام والعياذ بالله تعالى. والثاني يقول: داعٍ إلى العهد الجديد داعاكِ فاستأنفي في الخافقين علاكِ يا أمة العرب التي هي أمنا أي الفخار نميته ونماك وتسمع أشعار ميخائيل نعيمة و جبران خليل جبران ، و إيليا أبو ماضي ، و إيليا حاوي ، إلياس أبو شبكة وغيرهم، فقد كانوا نصارى، وهؤلاء كلهم هم الشعراء الذين يتغنى الناس بأفكارهم. وحتى أحمد شوقي قد أخذ عليه الفخر بالقومية العربية، فيقول: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدادي فلا دين يفرقنا ولا حد يباعدنا أي: لا يفرقنا دين، ولا شيء.وأصبحت المفاخرة: بأن أبناء الوطن جميعاً يعملون ضد الاستعمار، وضد القوى الرجعية، ولو سمع الواحد منكم الإذاعات العربية قبل حوالي عشرين أو ثلاثين سنة فإن أكثر ما يتعبه هو تكرار عبارة: إن القوى الوطنية الواعية والتقدمية تحارب الاستعمار، والقوى الرجعية، والمراد بالرجعية: الدين في نظري، فكانوا يستغلون فكرة القومية والوطنية لإشعال الحرب الضروس على الدين، وعلى كل من يدعو إلى الانتماء إلى الإسلام، أو يوالي أو يعادي في هذا الدين، حتى مسخت الأمة -تقريباً- مسخاً كاملاً، أو شبه كامل، وأصبحت نظرة كل الناس متجهة إلى الأمة العربية، والوطن العربي، فإن درست الجغرافيا؛ فهي جغرافية الوطن العربي، وإن درست الثروة؛ فهي ثروة الوطن العربي، وإن درست السكان فهم سكان الوطن العربي، وإن تحدث أحد مثلاً عن الأخطار فإنه يذكر الأخطار على الأمة العربية.. وهكذا.فالقضية عندهم هي قضية عربية؛ بغض النظر عن كون لبنان مثلاً دولة نصرانية، أو فيها نصارى يصلون إلى النصف أو أقل، وهناك الأقباط في مصر وغيرها، فذلك لا يضر فكلنا عرب ويكفي، وفي الحقيقة: أن هذه مجاملة لهؤلاء الحفنة القليلة من النصارى في لبنان و مصر حيث تخلى الباقون عن دينهم، وإلا فهؤلاء ليس لهم قيمة، فالتعبير المستخدم -ولا زال موجوداً إلى الآن - يقال: الأمتان العربية والإسلامية، فجعلوها أمتين من أجل خاطر مليون أو مليون ونصف في لبنان ؛ وأما الأقباط في مصر فإنهم إلى الآن لا يعدون إلا أقلية، لكن الدولة التي رئيسها نصراني في العالم العربي هي لبنان ، فمن أجل هذه الدويلة التي ما كانت إلا ولاية صغيرة جداً، ومن أجل خاطر هؤلاء تجعل الأمة الواحدة التي قال الله تعالى فيها: (( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ))[المؤمنون:52]؛ تجعل الأمة أمتين: الأمة العربية، والأمة الإسلامية.ولذلك تجد أن أي قضية تمس لبنان وتقصدها فإنها تأخذ حجماً أكبر بكثير جداً من قضية تمس المسلمين مثلاً في أي مكان؛ نتيجة رسوخ الفكرة القومية عند الناس، وأصبح لا يمكن أن تنظر إلى أي أحد وتقول: هذا مسلم، أو نصراني، أو تسأل: ما هو دينه؟ إلى ظهور هذه الصحوة الإسلامية الحديثة -والحمد لله- فما كان يتحدث أحد بهذا إلا ويحتقر، ولا يستطيع أن يكتب في مجلة، أو يتكلم في الإذاعة وهو يخالف فكرة القومية العربية، أو الأخوة العربية، والرابطة العربية، واللغة المشتركة، والتاريخ المشترك.. إلى آخره.فكان هذا هو المسمار الذي دقه الغرب لتفتيت وتمزيق هذه الأمة، وهذا مخالفة صريحة وواضحة لما ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآية الشريفة التي ذكرها الشارح (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، ولما قاله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى )، وأمثاله كثير، والغرض هو تفتيت وتحطيم وتدمير هذه الأمة، فكل حزب بما لديهم فرحون، فتجد أن العراقي -وإن كان يدعي القومية العربية- يفتخر بالآشورية والبابلية والكلدانية.. إلى آخره، وأهل بلاد الشام -وإن كانوا يدعون أيضاً القومية العربية والبعثية- يفتخرون بآثار من كان في بلادهم أيضاً من تلك الأمم المتقدمة والسابقة: من السومريين، والفينيقيين وغيرها، وفي مصر يفتخرون بالآثار الفرعونية، وعندنا نحن هنا؛ مع أن عندنا -والحمد لله- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والعقيدة السلفية التي لا تفرق بين عربي وعجمي، وهذه الدعوة -والحمد لله- قد دخلت إلى بلاد الهند ، ووصلت إلى نيجيريا ، فهي دعوة سلفية تجمع كل من يؤمن بها، ومع ذلك أيضاً أصبحت عندنا دعوات باسم الآثار وغيرها، وإحياء فكرة أن عندنا آثاراً قديمة، كآثار الأخدود، وآثار عاد، وآثار ثمود، ومدينة الفاو.. وغير ذلك، وإذا حفروا في مكان ما حفرة وفيها بيوت قديمة قد طمرها الطين؛ اعتبروا هذا اكتشافاً حضارياً، ومنقبة عظيمة، وأننا لنا ماضٍ ولنا آثار، وهكذا في كل مكان، فدخلنا فيما دخل فيه غيرنا، وهذه الأفكار قد رفضتها ولفضتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وانتهت منها.