المادة    
وقد تأثر بعض الجن من مرة واحدة سمعوا فيها القرآن، ولم يتأثر الإنس وهم يسمعونه مرات كثيرة جداً، فعلموا حينئذٍ أنه قد حيل بينهم وبينه؛ ((فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا))[الجن:9] وهنا الشاهد، وهو أن الشياطين لم يستطيعوا أن يسترقوا السمع حتى لا تقول قريش: هذا من وحي الشياطين، ومع ذلك فقد قالوا: إنه من وحي الشياطين، وأنه مثل سجع الكهان، فكذبهم الله سبحانه وتعالى قائلاً: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)[الشعراء:210-212] (ما تنزلت) في نفي القضية، (وما ينبغي لهم) أي: فالاستماع ليس من طبعهم ولا من شأنهم، وهذا معنى: (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ)، قال: (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) أي: إن حاولوا (إنهم عن السمع لمعزولون).
والشبهة الثانية قالوا: إنه ساحر. والساحر والكاهن شيء واحد، لكن قالوا ثالثاً: إنه مجنون. وقولهم هذا لا يحتاج إلى أن يناقش أصلاً: ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))[القلم:2] لأنه لا يمكن أن يصدق، ولذلك ففرية مجنون تستبعد من النقاش.
الشبهة الرابعة: قالوا: إنما يعلمه بشر، فإما أن يكون قول كاهن، وإما أن يكون هو شاعر أتى به من عنده، وإما أن يكون بشراً آخر يعلمه، والاحتمال الصحيح والخامس هو ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: أن هذا من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعلم الغيب، وأنه لم يفتعله من عند نفسه، ولا كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، ولكنهم لا يصدقون، بل يعرضون، وقد رد الله سبحانه وتعالى على هذه الشبهات وعلى هذه الأباطيل كلها.
فأما الرد على الفرية الأولى: فإن الشياطين أنفسهم قالوا: نحن عُزلنا عن الملأ الأعلى ولم نعد نستطيع السمع، ولكن بقي لهم شيء واحد للفتنة والابتلاء وهو: أن يسمع كلمة فيلقيها إلى الإنسي قبل أن يدركه الشهاب؛ فتنة من الله، فيأتيهم وليهم من الإنس فيخلط معها مائة كذبة ويبثها، فيتذاكر الناس هذه الصحيحة وينسون كذباته التسع والتسعين، وبها -أي: الصحيحة- يستمرون في إضلال بني آدم ويفتتن بهم الناس.
الفرية الثانية: أنه شاعر. ولهذا قال الله في نفس الموضـع في آخر سورة الشعراء: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ)[الشعراء:224-226] وليست صفات النبي صلى الله عليه وسلم بصفات الشعراء كما قال الله: (( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)[يس:69] أي: ليس من شأنه ولا من طبعه أبداً أن يكون شاعراً صلى الله عليه وسلم، وكل العرب يعرفون أن الشعراء دائماً يفخرون بما لا يفعلون، وأن أجبن الناس أصحاب القصائد الطويلة في الفخر بالشجاعة، ومن أبخل الناس أصحاب المعلقات الطويلة في الكرم، ولكن الرسل وإمامهم محمد صلوات الله وسلامه عليه لا يقول ما لا يفعل؛ بل يصدق قوله فعله، وفعله قوله.
الفرية الثالثة: أنه إنما يعلمه بشر. وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ((لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ))[النحل:103] وجاء بعض المستشرقين افترى زوراً وكذباً، وزعم -قاتله الله- أنه اكتشف هذا الاكتشاف الفريد في القرن التاسع عشر، وقال: الآن عرفنا مصدر القرآن؛ فقد وجدنا في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـبحيرى وقال: لا ينام هنا إلا نبي، إذاً: هو الذي علمه. سبحان الله! إن كان بحيرى الراهب يقدر أن يأتي بالقرآن، فلماذا لا يكون الصحابة صحابته، والرسالة رسالته، ولا يكون الملك ملكه يهدم عرش كسرى وقيصر؟ وكيف يعطيها الأعرابي الذي رآه مرة واحدة ولا يدعيها لنفسه؟
ثم إن بحيرى كان يقرأ في الأناجيل، وفي هذا الكتاب الرد على الأناجيل والتكذيب لما فيها، فهذا العلم، وهذا الإيمان، وهذه الأخبار العظيمة، لا يمكن لأي عاقل أن يصدق أنها من عند بشر، ولهذا رد الله عليهم بأسهل ما يمكن من الردود: ((لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ))[النحل:103] فهذا الذي يلحدون إليه وينسبون إليه أنه علم النبي صلى الله عليه وسلم أعجمي، بينما هذا القرآن ((لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ))[النحل:103]) عجز الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بآية واحدة من مثله، وفي هذا دليل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم.
والشاهد: أن الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى وأن الملأ الأعلى هم الملائكة الذين عند الله سبحانه وتعالى، كما قال: ((مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ))[ص:69] وكانوا يختصمون كما في حديث معاذ في الكفارات والقربات، والملأ الأعلى هم هؤلاء الملائكة الذين شرفهم الله سبحانه وتعالى بهذه العبودية له، فإذاً: يكون كما قال رحمه الله أيضاً: "وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم"، ذكرها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب بدء الخلق، وذكرها غيره.
ونجد ذكر الملائكة في القرآن في آيات الحشر، والبعث، والجنة، والنار، والتأييد والنصرة وغير ذلك، وفي مواضع كثيرة من الكتاب والسنة.
يقول: "فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان" أي: لما تقدم من أوصافهم وأصنافهم، ومراتبهم وبراءتهم، وقربهم وإكرامهم، وتسبيحهم وعبادتهم، ومخالطتهم، وعلاقتهم ببني آدم.. لهذا كله كان الإيمان بالملائكة أحد أركان أو أصول الإيمان الستة التي يجب الإيمان بها، ومن كذب بالملائكة فقد كفر وكذب بالدين كله، ولا يقبل له إيمان.