وأول ما تفتتت أوروبا كان ذلك على يد حركة الإصلاح الديني التي يتزعمها مارتل لوثر و كانفل ، ومن كان معهم، وهؤلاء ابتدعوا الدين الذي يعتبرونه تصحيحاً للنصرانية وهو: البروتستانتية، ومعنى البروتستانت: المعارضون المحتجون، أي: معارضون للبابا زعيم الكاثوليك في روما ، ومحتجون عليه وعلى ما أحدث في الدين من بدع، وأرادوا تصحيح الدين، ولكنهم لم يأتوا على القضايا الأساسية في الدين، فلم يصححوا التثليث ليصبح توحيداً، ولم يصححوا اعتقاد أن المسيح ابن الله ويقول: بأنه عبد الله ورسوله، وغير ذلك من الأمور، ولكنهم اعترضوا عليه في أمور كثيرة من أهمها: توسط رجل الدين بين العبيد وبين الله تبارك وتعالى، فالكاثوليك يقوم دينهم على هذا التوسط، فرجل الدين هو الواسطة، فلا يمكن الاستغفار إلا عن طريقه، ولا يمكن الصدقة إلا عن طريقه، حتى إنه يباشر كثيراً من أمور الناس عند الموت، وعند الولادة، وعند الزواج، والأسرار السبعة -كما يسمونها- من التعميد، والزواج، والبيت المقدس عند الموت، وما أشبه ذلك، فهذه مراسيم معينة لابد أن يقوم بها القديس، وإن لم تفعل لأي إنسان فإنه يعتبر ويعد محروماً من الجنة؛ لأنه ليس بينه وبين الله أي صلة.
ومن ذلك احتكارهم لقراءة وتفسير الإنجيل ، فلا يمكن لأحد أن يقرأ الإنجيل ، أو أن يفسره إلا رجال الدين القساوسة، ويقرءونه باللغة القديمة وليس باللغات المعاصرة، واللهجات المحلية التي كانت في أوروبا ، فعندما ظهر مارتل لوثر أحدث انفجاراً قوياً وعنيفاً جداً في هذه التركيبة التي كانت أوروبا بأجمعها مجتمعة عليها.
وقد تأثرت حركة مارتل لوثر تأثراً واضحاً جداً بالإسلام والمسلمين؛ نتيجة الحروب الصليبية، فوجدوا أن المسلمين يقرءون كتاب الله، وكل منهم يقرأ كلام الله كما يشاء، ويعبد الله سبحانه وتعالى وليس بينه وبين الله واسطة، فوجدوا أنهم يمكن أن يعيشوا ولهم الكرامة الإنسانية الحقيقية، والعبودية لله تبارك وتعالى من غير توسط أحد.
وقد اجتهد أناس قبل لوثر في ترسيخ هذه المبادئ، أو زحزحة هذه التقاليد العتيقة القديمة التي نشأ عليها الغربيون، فنشأت حركة سموها: حركة تحطيم الصور والتماثيل، وأخذوا يحطمون الصور، ويحطمون التماثيل في كثير من أنحاء أوروبا ، ويقولون: إن هذه وثنية؛ لأنه مكتوب في التوراة : لا تعمل صنماً، ولا ترسم صورة، ولا تعبد وثناً.. إلى غير ذلك مما هو موجود في التوراة ، فقالوا: هذا ليس من الدين في شيء، وهم تأثروا في هذا بالمسلمين، وهكذا بدأت الحركات من هذا النوع، ثم بلغت القمة في حركة مارتل لوثر ، والإصلاحيين البروتستانت.
وقد كان لوثر ألمانياً، فترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية، وجعل الناس كلهم يقرءونه، فكل إنسان يقرأ الإنجيل ، ويتعبد كما يشاء، ولا يراجع أي قسيس، وأصبحوا يعتقدون كفر الكالثوليك الذين في روما، أي: البابا، ومن يتبعه في أوروبا كلها، والبابا في المقابل يعتقد أن البروتستانت كفار، وحرم كل منهما الزواج من الآخر، فلا يجوز للبروتستانتي أن يتزوج كاثوليكية والعكس، وصارت بينهم عداوة شديدة جداً.
و لوثر باعتبار أنه لم يضع منهجاً دقيقاً ومنضبطاً بقدر ما وضع خروجاً عن البابوية؛ خرجت فرق وقواعد كثيرة تحت الشعار نفسه، وخالفته وخالفت البابا، فكثرت الفرق والطوائف الدينية في أوروبا ، والمهم أن القومية الألمانية تمحورت حول البروتستانتية ديناً وعقيدة، فالشعب الألماني قومية، فلغته الألمانية، ودينه البروتستانتية.