المادة    
الصوفية ضلت ضلالاً بعيداً حينما كانت تحارب النفس وطبيعتها التي جبلها الله عليها، ونقل عن بعض أكابرهم أنه كان يقول: "ما بالنا نفتر؟!" يتعجب لماذا نفتر عن التسبيح؟! ولماذا نسأم من العبادة ؟!
فنقول: إن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو العبد الشكور، وصاحب المقام المحمود، يخالف ما تدعون؛ إذ ليس من هديه صلى الله عليه وسلم أن تجاهد هذه النفس -كما يزعمون- لتتمحص إلى نفس أو روح ملائكية، فهذا محال، وهو من مخالفة طبيعة الأشياء، ولا شك أنه وجد من العباد والزهاد من كان هدفه وهمه أن يصفي نفسه لتصبح مطيعة طاعة مطلقة، تسبح فلا تفتر ولا تمل من الصلاة والذكر، والقراءة والتسبيح. لكن هذا في الحقيقة مخالف للطبيعة الإنسانية، ولهدي الرسول صلى الله عليه وسلم كما في خبر الثلاثة وإنكاره صلى الله عليه وسلم عليهم، حتى قال: {أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}، هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن أحداً قام الليل كله، أو أجهد نفسه على قيام الليل كله، فلربما نام عن صلاة الفجر، وهذه منقصة بلا شك، أو نام بعد الصلاة، فيقال له: أين التسبيح، وهذا وقت يمكن أن تسبح الله فيه؟ إنك خلقت لعبادة غير تلك التي خلق لها الملائكة.
  1. أصل فكرة العبادة بلا سأم

    إن أصل هذه الفكرة، أعني فكرة العبادة بلا سأم وبلا ملل وبلا فتور، مأخوذ من الهندوسية الذين لا يؤمنون بجنة ولا نار، بل عندهم مبدأ تناسخ الأرواح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وأعطاهم هذه الأرواح، فمن جاهد نفسه وأخذها بأنواع الرياضات والمجاهدات، وأضاف إلى ذلك من العذاب والآلام التي يعذب بها نفسه، يقولون حتى يصفيها، فإذا صفاها تماماً من الشهوات والشبهات والخطايا وما يتعلق بها ثم مات، فإنه يصل إلى النعيم، والنعيم هو الاتحاد ببراهما، وهو عندهم الإله الأساس الذي انبثقت منه الأرواح، فكلما صفا الجوهر اتحد بالإله الذي هو براهما، وهذا هو الذي سمته الصوفية : الفناء أو المحو، وبعض الاتحادية منهم صرح به وسماه الاتحاد، وهؤلاء خرجوا عن الإسلام وارتدوا عنه بالكلية، لكن الذين لم يصرحوا بالاتحاد منهم يقولون: هذا فناء، أي: يفني بذاته في معبوده، وهذه حالة عليا يجب أن يصل إليها الإنسان حتى يصبح ناطقاً بلسان الحق كما يقولون تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فإذا تكلم ليس هو المتكلم وإنما هو الله، وقال قائلهم في ذلك:
    أصبحت منفعلاً لما تختاره            مني ففعلي كله طاعات
    أي: جاهد نفسه وصفاها ومحصها حتى أصبحت كل أعماله انفعالاً لقدرة الله، ولفعل الله، وقوله: ففعلي كله طاعات، أي: ليس له إرادة؛ فإن عصى وترك الصلاة، وترك الجمعة والجماعة، وفعل ما فعل؛ فإن هذا لا مؤاخذة عليه فيه؛ لأنه شهد الحقيقة الكونية -كما يزعمون- وأصبحت أفعاله كلها طاعات.
    فأصل هذا الكفر الصراح، وهذه الفكرة الخبيثة منقولة عن أولئك الهندوس، ومن ذلك نشأ ما يسمى عندهم بالشطحات، وهو الكلام الكفري الذي يقولونه في حال السكر أو حال الفناء أو المحو.
  2. الوسطية المطلوبة من البشر في العبادة

    خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وأراد منه عبادة غير تلك التي يظن أولئك الصوفية، قال تعالى: (( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هود:61] وقال: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))[البقرة:30] فلابد أن يعلم الإنسان لماذا أوجده الله في هذه الأرض؟ وما هي الحكمة من خلقه ووجوده على هذه الأرض؟ فإنه لم يخلق فيها ليكون مَلَكَاً، ولم تركب طبيعته على أن يسبح ويعبد ولا يفتر أبداً، وإنما ليعبد الله سبحانه وتعالى كما شرع له: (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)[فاطر:24] فلم تأت أمة إلا ويبعث الله فيها رسولاً أو لديها بقية من آثار الأنبياء، فعلى هذه الآثار وعلى هذا الوحي تهتدي وتسير. ونحن بشر نعبد الله ونأكل مما أحل لنا من الطيبات، ولو حرمنا شيئاً مما أحل الله لنا لوقعنا في الشرك؛ كما في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم : {إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين؛ وحرمت عليهم ما أحللت لهم}.
    فعندما آكل ما أحل الله لي معتقداً حله، وأجتنب ما حرم الله علي معتقداً حرمته، فأنا مطيع وعابد لله سبحانه وتعالى.
    وعندما يتزوج الإنسان ويقضي وطره وشهوته، ويريد بذلك الأجر والتقرب من الله فهو يعبد الله سبحانه وتعالى.
    فهذه أنواع من العبادة لا يمكن أن يظفر بها إلا من عرف هذا الدين، واتبع الحنيفية السمحة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، أما الهندوس ورهبان النصارى السابقين وإلى اليوم، فإنهم ما زالوا يعذبون أنفسهم، فحرموا عليها الزواج وغيره من الطيبات من أجل هذا الزعم الكاذب: لكي يصبحوا كالملائكة، وهذا محال ولا يمكن أن يكون؛ لأنه مخالف لشرع الله ودينه، كما أنه مخالف لما جبل الله عليه النفوس وخلقها، فعبادتنا غير عبادة الملائكة، وعبادة الملائكة غير عبادتنا، فالملائكة لم تركب فيها الشهوات؛ ولذا لم تكن موضع ابتلاء، أما نحن فقال في حقنا: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))[الملك:2] وقال: (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[الإنسان:3] فنحن موضع ابتلاء أما الملائكة الكرام؛ فإنهم مكرمون مصطفَون مطهرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون، ومن المحال أن يصبحوا مثلنا أو أن نصبح نحن مثلهم فكل له عبادته، وكل قد اختصه الله بأمر غير الآخر.
    ولهذا نقول: إن أعظم عبادة لله سبحانه وتعالى -أي: تحقيق العبادة بأعلى درجاتها- في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. هذه هي الطريق الوحيدة طريق محمد صلى الله عليه وسلم: {فمن رغب عن سنتي فليس مني}، وكل الطرق سواها لا توصل إلى الله سبحانه وتعالى، فمن رغب عن منهجه صلى الله عليه وسلم في أي أمر من أموره فليس من هذا الأمر في شيء، بل هو على شفا جرف هار.