المادة    
يقول رحمه الله: "فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، وبراءتهم من الذنوب، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم، والتقريب والعلو، والطهارة والقوة، والإخلاص" ثم أخذ يذكر الآيات التي تدل على هذه الأوصاف.
أولاً: قوله تعالى في سورة البقرة: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))[البقرة:285] في هذه الآية قرن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان به وبين الإيمان بملائكته، ثم ذكر الكتب، ثم الرسل، وحكمة هذا الترتيب، هي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم بالوحي، وهذا الهدى والنور يأخذه الملك لينزل به، فالملائكة هم أول الخلق أخذاً بهذا الخير والنور الذي ينزلون به إلى الناس، وأعظم ما فيه هو الكتب؛ فكانت الكتب هي الركن الثالث من أركان الإيمان، ثم الرابع الرسل؛ لأن الرسول ينقل ما بلغه من الكتب عن طريق الملك إلى الناس؛ فمن هنا كان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.
ثانياً: سورة آل عمران يقول الله فيها: ((شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ))[آل عمران:18] فهذه أعظم وأكبر قضية في هذا الوجود، وهي قضية ألوهية الله سبحانه وتعالى، استشهد الله سبحانه وتعالى فيها بأعظم شاهد، وهو ذاته المقدسة سبحانه وتعالى: (شَهِدَ اللَّهُ)، فهو أول وأعظم شاهد: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت:53] .. ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً))[الأنعام:19]، وقرن معه في ذلك أفضل الخلق وهم صنفان: الملائكة وأولو العلم من بني آدم، ويدخل فيهم النبيون، ثم الصديقون، ثم العلماء بالحق والنور الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، ولو كان هناك من هو خير من هؤلاء لاستشهد في هذه القضية، لكن جاءت الآية بالنص على شهادة الملائكة لما فيهم من هذه الأوصاف العظيمة، وأولي العلم لأنهم خيرة الناس، وكلما كان الشاهد أكثر علماً بالقضية المشهود عليها كلما كانت شهادته أوثق وأقوى، ومن هنا كان استشهاد الله سبحانه وتعالى على ألوهيته ووحدانيته بأولي العلم، لا بأولي السلطان، ولا بأرباب الأموال، ولا بأصحاب الجاه والمنصب، وإنما بالعلماء العالمين بحقائق هذا الدين، وبهم تقوم الحجة على العالمين، كما سماهم الإمام ابن القيم رحمه الله: الموقعون عن رب العالمين؛ لأنهم هم الذين يقولون: هذا حلال، أو: هذا حرام، والناس تأخذ عنهم الحكم كأنه جاء -مباشرة- من عند الله، لأنه قد أخذه العلماء من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم مبلغون وموقعون عن الله سبحانه وتعالى.
فهذا دليل على فضل الملائكة، وهو كذلك دليل على فضل أولي العلم.
ثالثاً: قال: "وصلاته بصلاتهم" ثم ذكر لذلك قول الله سبحانه وتعالى: ((هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))[الأحزاب:43] فقرن صلاة الملائكة الكرام بصلاته عز وجل، ويفهم من ذلك تشريف هؤلاء الخلق الكرام الذين هم عنده في الملأ الأعلى، وأن الله قرن صلاته على الصالحين من بني آدم بصلاة أولئك.
رابعاً: قال في حملة العرش: "وتارةً يذكر حفهم بالعرش وحملهم له" ثم ذكر قول الله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا))[غافر:7] وهؤلاء من أعظم أصناف الملائكة لقربهم من الرحمن سبحانه وتعالى، وللشرف العظيم الذي ينالهم بهذا القرب وبهذا العمل، وهو حمل العرش، وهو ذاك المخلوق العظيم الذي هو أعظم مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الملائكة من أعظم المخلوقات خلقة، ومن أشرفهم وأقربهم منزلة من الله سبحانه وتعالى، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم ومن حول العرش يسبحون بحمد ربهم وينزهونه بخلاف بني آدم الذين يسيئون إليه بالليل والنهار.
وفضل التسبيح عظيم، ويكفي فيه أن من قال: (سبحان الله وبحمده) في يومه مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وإن قال: (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فقد استكمل الخير وأتى بخير كلام بعد القرآن.
الشاهد: أن التسبيح من أعظم أنواع الذكر، بل هو أشرفها، بدليل أن الملائكة تقوله، وليس أشرف من مجرد التسبيح إلا قراءة القرآن، وقد يكون المفضول أحياناً خيراً من الفاضل بحسب الأحوال، كما في الركوع أو السجود؛ فإن الإنسان لا يقرأ فيهما القرآن، وإنما يسبح الله أو يدعوه.
فالملائكة اختصهم الله سبحانه وتعالى بأشرف أنواع الذكر وهو التسبيح: قال: ((وَيُؤْمِنُونَ بِهِ))[غافر:7] وفي هذا دليل على أهمية الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ولا شك أن المؤمنين يؤمنون بالله وكذلك الملائكة.
ثم قال: ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا))[غافر:7] ويكفي المؤمن شعوراً وإحساساً بالطمأنينة أنه محبوب في الملأ الأعلى والأدنى، وأن ملائكة الله تستغفر له وهي لا تقارف الذنوب ولا ترتكب المعاصي؛ فعندما يصعد الملائكة المتعاقبون إلى الله سبحانه وتعالى بأعمال وخطايا وذنوب من العالم السفلي؛ وهنالك يأتي أولئك الأطهار الأخيار الأبرار المقربون ويستغفرون للذين آمنوا، ويشعرون بهذه الرابطة بينهم وبين المؤمنين، ومن هنا فإن هذا يدفع المؤمنين إلى أن لا يعصوا الله عز وجل؛ لأن المؤمن إذا ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منه، فإذا كانت ملائكة الله تستغفر لك، فلا تتماد في المعاصي، بل حاول واجتهد أن لا تعصي الله؛ لكي تنال الأجر العظيم والمحبة والقرب من الله سبحانه وتعالى، وهذا مـما يـدل على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين: أن جعل أقرب الملائكة إليه يستغفرون لهم.
وخامساً: قال في سورة الزمر: ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[الزمر:75] وهذا بعد انفضاض المحشر وانقضاء الحساب.
سادساً: قال في سورة الأنبياء: ((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26] وهذا من أوصافهم التي جاءت في القرآن بأنهم مكرمون، وهذا الوصف لهم دليل على شرف منزلتهم وعلوها.
سابعاً: قال في سورة الأعراف: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206] ذكر لهم ثلاثة أوصاف في هذه الآية، وكلها فيها دلالة على استدامة العبادة والطاعة، فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206] وهذا من أدلة العلو كما تقدم، والمراد: أي: في الملأ الأعلى عند الله سبحانه وتعالى، (( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ))[الأعراف:206] وفي ذلك تعريض باستكبار كثير من بني آدم عن عبادة الله تعالى مع أنهم مخلوقون من تراب ويعيشون عليه وفي هذا العالم السفلي الممتلئ بالآلام!! وما عرفوا قدر أنفسهم، بل كثير منهم يستكبر عن عبادة الله، وفي المقابل أولئك الذين عند الله في الملأ الأعلى الطاهر المطهر لا يستكبرون عن عبادته: (( لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ)[النساء:172] فلا يمكن لخلق من خلق الله الذين عرفوه -وأعظمهم الملائكة والأنبياء- أن يستنكفوا أو يستكبروا عن عبادته الله سبحانه وتعالى، وإنما ذلك شأن الذين أطغتهم الشياطين والآمال، أو ألهتهم الدنيا بمتاعها وغرورها وزخرفها، وانصاعوا وراء الشهوات وساروا خلف الشيطان؛ فاستكبروا عن عبادة الله، وهو غني عنهم وعن عبادتهم (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ))[فاطر:15-17].
وقوله: ((وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206] أي: فلا يسجدون لغيره، وقدم الجار والمجرور على ما هو متعلق به للاختصاص، كما في قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5] لبيان أن عبادتهم خالصة ممحضة لله سبحانه وتعالى. فهم لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله وحده لا شريك له يسجدون، وإليه يتقربون، كما في قوله تعالى في سورة الإسراء: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الإسراء:57] فسرها بعض الصحابة كـابن مسعود رضي الله عنه وغيره: أن الذين يدعوهم المشركون ويعبدونهم من دون الله كالملائكة وعيسى وعزير أو غير ذلك.. هؤلاء الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب من الله سبحانه وتعالى حريصون على القرب منه تعالى أكثر فأكثر.
ومن هنا نعرف معنى الوسيلة الشرعية؛ لأن عباد القبور والأولياء من الروافض والصوفية وأمثالهم يجعلون الوسيلة هي الوسائط، والشفعاء: هم الأئمة أو الأولياء، أي: أن البشر المعبودين من دون الله سبحانه وتعالى هم الوسيلة، لكن يذكر الله سبحانه وتعالى هنا أن هؤلاء المقربين المدعوين المعبودين من الملائكة والرسل يتخذون إلى الله الوسيلة، وهي ما يتوسل به، أي: يتوصل به، وتقارب اللفظ واتحاد المخرج للسين والصاد يدل على تقارب المعنى، بل إن حروف الصفير تتناوب في كثير من الكلمات العربية.
((يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ))[الإسراء:57] فكلهم يرجو القرب من الله سبحانه وتعالى وهؤلاء أعلى الخلق درجة، وإلا فمن بعد الرسل والملائكة؟! وهذه هي الوسيلة التي في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ)[المائدة:35] فالوسيلة هي ما يتوسل ويتقرب به من الذكر، والتسبيح، والعبادة، والعمل الصالح، وأعظم الأعمال الصالحة وأساسها: توحيد الله سبحانه وتعالى؛ لذا كان الكفار أبعد الناس عن الوسيلة والقرب من الله سبحانه وتعالى، وأقرب الناس إليه سبحانه وتعالى هم أخلصهم توحيداً و أكثرهم يقيناً به سبحانه وتعالى.
ثامناً: ذكر في سورة فصلت: ((فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ))[فصلت:38] تسبيحاً متواصلاً لا سآمة فيه ولا ملل، وأما نحن في هذه الحياة الدنيا فنفتر ونسأم، ونصاب بالملل، ولكن إذا صرنا إلى الجنة فإنا نلهم التسبيح كما نلهم النفس، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة.