قال رحمه الله: [فمنهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على على قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه]، فكل ملك له عمله الموكل به، فلا يقصر عنه ولا يتعداه أبداً، فلو أراد ملك الجبال أن يتصرف في الأرواح أو في الأجنة، فإنه لا يستطيع أبداً؛ لأنه مأمور بعمل آخر لا يتعداه أبداً، فكل ملك من الملائكة هو من جند الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يقصر في عمله، ولا يمكن أن يتجاوزه أو يتخطاه إلى غيره.
إذاً: فالذين يدعون الملائكة أو يستغيثون بهم، لما لهم عند الله من جاه عظيم ومنزلة عظيمة، يقال لهم: إن هؤلاء عبيد، لهم عمل لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، وهو ما وكله الله سبحانه وتعالى إليهم من أمور التدبير والتصريف.
قال رحمه الله: [وأعلاهم الذين عنده: ((
لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ))[الأنبياء:19] : ((
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:20]]، أي أن أعلى الملائكة درجة هم من هذا شأنهم، فمن كان هذا شأنه، فهو قائم لله تبارك وتعالى بالعبودية.
وعلو كل إنسان ليس بمقدار جاهه ولا ملكه، ولا ماله، ولا نسبه، لكن بمقدار عبوديته لله، ولهذا كان أفضل البشر أجمعين محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عبد الله سبحانه وتعالى حتى وصل إلى كمال العبودية، ولهذا وصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى وأشرف المقامات: في مقام الإسراء، وهو الذي لم يقع لأحد غيره، قال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))[الإسراء:1]، فقوله: (بعبده) للتكريم والتعظيم، فكأنه ليس له عبد إلا هو، مع أن له عبيداً غيره، ولكن المقصود: عبده الذي حقق عبوديته الكاملة لله سبحانه وتعالى، وفي مقام الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الدعاة والهداة، الذي بعثه الله لهداية العالمين أجمعين، مع أن من قبله من الرسل إنما كان يبعث ليدعو قومه خاصة، قال تعالى: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا))[الجن:19]، أي: العبد الداعي الذي حقق كمال العبودية في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، فوصف العبودية في أشرف المقامات هو الأصل.
ولهذا نقول: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، مع أن عبيد الله كثير، فعيسى وموسى وغيرهم من عباد الله، لكن كأننا نخص النبي صلى الله عليه وسلم لبلوغه غاية العبودية، فمن هنا كانت درجته أعلى، وكذلك الملائكة، فأعلاهم عند الله هم الذين : ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:19-20].
فبمقدار عبوديتك لله يكون قدرك عند الله، ولذلك ارتفع قدر الصحابة الكرام عند الله للعبودية العظمى التي قاموا بها، ثم الناس بعدهم مراتب.. إلى مرتبة الفاجر الذي لو ملك الدنيا بحذافيرها، فإنه لا يساوي عند الله جناح بعوضة، بل إنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا}.
إذاً: درجات الملائكة بحسب العبودية، ودرجات الناس بحسب ذلك، ودركات النار أيضاً بحسب ذلك، فالعصاة أقل عذاباً، وأما الأشد كفراً وضلالاً من الطواغيت والمجرمين فهم في الدركات السفلى من النار، وهكذا.. فالأمر والمعيار يرجع إلى تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى.