المادة    
قال الشارح رحمه الله: [ومنهم: الصافات صفاً فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً]: ((وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا))[الصافات:1-3]، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: [[(وَالصَّافَّاتِ صَفّاً) هي الملائكة، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً) هي الملائكة، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً) هي الملائكة]]، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس . قال قتادة: الملائكة صفوف في السماء. وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة -إلى أن قال:- عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فُضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة...}".
وهذا فضل عظيم، فنحن نصف لربنا عز وجل في هذه الأرض كما تصف الملائكة لربها تبارك وتعالى في السماء، وهذا -مع الأسف- مما ضيع وترك، فإن بعض الأئمة لا يهتم بتسوية الصفوف، فما أن يكمل المؤذن الإقامة حتى يتقدم الإمام ويكبر مباشرة، دون تسوية للصفوف.. وهذا الأمر مخالف للسنة، وقد يقع هذا الفعل من بعض طلبة العلم، الذين يؤاخذون على تركهم لهذه السنة العظيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، التي لو لم يكن من فوائدها إلا أن القلوب لا تختلف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تختلفوا فتختلف قلوبكم}، ومن فوائدها: أن نكون كالملائكة عندما تصف عند ربها، ونحظى بهذا الشرف العظيم، وأن نسلم من الوعيد الشديد الذي ورد في حق المخالفين.
فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى فضل هذه الأمة بهذه الميزة العظيمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعل لنا ترابها طهوراً }، وفي رواية: {فحيثما أدركت أحداً من أمتي الصلاة فليصل} أما أهل الكتابين فلا تصح الصلاة منهم إلا في الكنائس، أو البيع وقوله صلى الله عليه وسلم: {وجعل لنا ترابها طهوراً} وذلك إذا لم نجد الماء وهذا من فضل الله تعالى ومن نعمه على هذه الأمة، أن منّ عليها بالتيمم الذي يقوم مقام الماء، في الوضوء في حالات معينة مذكورة في كتب الفقه، فيتيمم المسلم ويصلي وليس عليه حرج.
قال رحمه الله: "وروى مسلم أيضاً وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف}، فالصف المتقدم لابد أن يُتم حتى لا يبقى فيه فراغ، ولابد أيضاً من المراصة في نفس الصف، حتى لا تكون هناك فرج فيما بينهم.
وهذا الأمر -كما ذكرنا- مما أضاعه المسلمون، وما أكثر ما أضاعوا من أمور دينهم! لأنهم قد يتهاونون في بعض الأمور ظناً منهم أنها هينة، ولكنهم ينسون ما يترتب على ضياعها من فوات خير كثير، وينسون ما في تطبيقها من فضل وبركة عظيمة، ومن ذلك هذه الشعيرة العظيمة وهي الصلاة، التي هي من أولى ما يجب علينا أن نعتني به وبإقامته، كما بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: " وقال السدي وغيره: معنى قوله تعالى: ((فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا))[الصافات:2] أنها تزجر السحاب"، وذلك مثل قوله تعالى: ((وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا))[المرسلات:3] أي: تنشره وتبسطه بإذن الله كما يشاء الله سبحانه وتعالى. قال: "وقال الربيع بن أنس: (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) ما زجر الله عنه في القرآن، وكذا روى مالك عن زيد بن أسلم، إذاً الزاجرات زجراً -على هذا المعنى- هي الآيات والعبر والمواعظ الزاجرات في القرآن، قال: ((فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا))[الصافات:3] قال السدي: الملائكة. يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس. وهذه الآية كقوله تعالى: (( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ))[المرسلات:5-6].
هذا هو تفسير ما ذكره المصنف رحمه الله من صفات الملائكة عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومن أعظمها: أنها موكلة بإنزال الوحي، فهي تُرسل بالوحي، وتنذر الناس به، وتتلوه وتلقيه إلى الناس.
قال المصنف: [ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات]، أي أن (النازعات، والناشطات، والمرسلات، والملقيات، والصافات) جمعت جمع التأنيث على أساس أن جمع التأنيث جمع للطائفة أو الفرقة أو الجماعة، وقد ذكر ذلك لينبه على أن الملائكة ليسوا إناثاً لأجل تأنيث الجمع؛ لأننا قد نقول: جاءنا من الرجال جماعة أو طائفة، فكلمة (جماعة وطائفة) مؤنث، ولكنهم في الحقيقة ذكور وليسوا إناثاً.