ثم يقول الشيخ رحمه الله:
[ هؤلاء -أيضاً- مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ))[التوبة:31] وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم )].إذاً: هذه الآية بينت لنا حال أهل الكتاب، وإن كان الشيخ نص على
النصارى فقط، لكن الآية يمكن أن يدخل فيها
اليهود؛ ولذلك فسر العلماء الأحبار بأنهم العلماء، والرهبان بأنهم العباد، فإذاً: هؤلاء يشابهون
اليهود الذين هم من أبعد الناس عن العبادة، وهم غلاظ الأكباد والقلوب، عتاة الرقاب، لا يخضعون لله عز وجل ولا يتقربون إليه والعياذ بالله، وقلوبهم من أقسى القلوب؛ لأنها غلف وكالحجارة أو أشد قسوة كما ذكر الله تعالى عنهم؛ ولذلك مسخوا قردة وخنازير.فـ
اليهود يطيعون الأحبار؛ ولذلك نجد الآية: ((
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ ))[التوبة:31] فـ
اليهود يطيعون الأحبار الذين هم علماء الضلال نعوذ بالله ولا يعملون بعلمهم، وينطبق عليهم المثل الذي ضربه الله تبارك وتعالى في حقهم: ((
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ))[الجمعة:5] فهم يطلعون على الكتاب ويعرفون أحكامه وحلاله وحرامه، ولكنهم يشرعون من عند أنفسهم، ولا يلتزمون بأحكامه، ولا يتقيدون بحلاله وحرامه، فأحلوا للناس ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، كما تقدم في آيات المائدة من بيان أنهم غيروا حكم الله تعالى الذي هو الرجم بالجلد والتحميم، هذا هو حال الأحبار من
اليهود. وأما الرهبان فهم عباد
النصارى ، وإلى الآن لا زال هذا هو حال
النصارى ، فهم لا يعظمون العالم لعلمه فقط كحال
اليهود ! بل قد يكون أكثر علماء
النصارى متبوعيهم وأئمتهم ليسوا بعلماء، فلم يعظموهم لأنهم علماء، لكن عظموهم لأنهم عباد، فإذا انقطع الإنسان في فلاة أو في كهف أو في مكان، وأكثر التبتل والذكر والتعبد عظموه وقدروه وأجلوه واحترموه وإن كان ليس لديه من العلم أي شيء، وأكثر
النصارى إلى اليوم في الدنيا لا يفقه من
النصرانية شيئاً، كل ما في ذلك أن لديهم تعلقاً عاطفياً بالمسيح، وأن المسيح قتل من أجل خلاصنا، ونحن نحبه، ويبكي ويتأثر ويتألم، ويحاول أن ينقطع عن الشهوات، ويقول: إن المسيح لم يتزوج فلا يتزوج النساء، والمسيح حذر من الدنيا فلا أقرب الدنيا. فـ
اليهود غلب عليهم جانب العلم بلا عمل، ولذلك فهم المغضوب عليهم، و
النصارى غلب عليهم جانب الزهد والعبادة والرهبانية التي ابتدعوها من غير علم فكانوا ضالين.إذاً: عندما يأتي في هذه الأمة من يقول: إن فلاناً ولي، وهذا الولي يؤخذ كلامه ويطاع أمره وإن كان ذلك في تحريم حلال أو تحليل حرام، فإنه أيضاً مشابه لأهل الكتاب في هذا، وهذا ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (
لتتبعن أو لتركبن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) وفي الرواية الأخرى: (
حذو القذة بالقذة ) يعني: لا تتركون شيئاً من مداخلهم، أو مخارجهم، أو عاداتهم، أو تقاليدهم، أو ضلالاتهم إلا ويكون لكم فيها نصيب، إلا من رحمه الله وجعله من الطائفة المنصورة التي جعلها الله تبارك وتعالى قائمة بأمر الله، لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.يقول المؤلف رحمه الله: (ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول) أي:
حرموا الوصول إلى الله بتضييعهم لأصول الدين فـ
الصوفية يكثرون الكلام عن الوصول؛ ولهذا يسمون المبتدئ مريداً، والذي لا يزال في أثناء الطريق يسمونه سالكاً، والذي انتهى به الأمر يسمونه واصلاً، فقيل فيهم: إنهم حرموا الوصول ولم يصلوا -وإن زعموا ذلك- بتضييع الأصول؛ لأنهم أخذوا مثلاً: جانب الأذكار، الانقطاع عن الشهوات وجوانب أخرى معينة وتركوا الأصول، وذلك مثل تركهم أصل المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، تركوا الاعتقاد الصحيح الذي هو الأصل، وأخذوا ببعض الأمور التي ظنوا أنها هي الدين، بل حتى هذه ابتدعوا فيها، فبدل الذكر أخذوا السماع والرقص على صوت الطبل والعياذ بالله، فحتى الذكر لم يعد هو الذكر المشروع، مع أن الذكر لو كان على غير اتباع لما قبل، فكيف إذا لم يكن أيضاً ذكراً مشروعاً وإنما هو ذكر بدعي.