المادة    
قال الشارح: [ومنهم المرسلات عرفاً]، وفي بعض النسخ ذكر الآية بنصها،: ((وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا))[المرسلات:1]، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالمرسلات عرفاً، وكذلك: (وَالنَّازِعَاتِ) (وَالصَّافَّاتِ) (وَالذَّارِيَاتِ) كلها مقسم بها، ولهذا أتت مجرورة، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد من خلقه أن يقسم إلا به سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الشارح رحمه الله [المرسلات، والناشرات، والفارقات، والملقيات، والنازعات، والناشطات، والسابحات، والسابقات، والصافات، والزاجرات، والتاليات] على أنها تعني الملائكة، فظاهر كلامه أن هذه كلها صفات للملائكة، ولكن بعضها مسلم به، وبعضها فيه خلاف: هل المراد بها الملائكة أم خلق من خلق الله سبحانه وتعالى غير ذلك؟
ومن ذلك: (المرسلات) فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (8/686): "أخرج الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال [[المرسلاتُ عرفاً: الملائكة أرسلت بالمعروف ]]" فيكون (عرفاً): منصوب بنزع الخافض، والمعنى: (والمرسلات بالعُرف) والعُرف: هو المعروف، كما فسره أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وكما قال الله تعالى: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ))[الأعراف:199] فالعرف: هو المعروف.
الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره أقوالاً أخرى للعلماء، فقد ذكر سند ابن أبي حاتم إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: [[(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا): الملائكة ]]، وهذا يتفق هذا مع ما ذكره الحافظ رحمه الله وأقر الحاكم على تصحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
ثم قال: "وروي عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات والسدي والربيع بن أنس مثل ذلك"، فهؤلاء وافقوا أبا هريرة رضي الله عنه على أن المرسلات هي الملائكة، قال: "وروي عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل، وفي رواية عنه أنها الملائكة، وهكذا قال أبو صالح في (العاصفات، والناشرات، والفارقات، والملقيات) أنها الملائكة"، فقد جاء عن بعض السلف أنه فسر الكل بأنها صفات للملائكة؛ كما هو ظاهر كلام المصنف رحمه الله.
ثم قال: "وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيد قال: [سألت ابن مسعود عن المرسلات عرفاً؟ قال: الريح ]، وهذا هو القول الثاني. قال: "وكذا قال في العاصفات عصفاً، والناشرات نشراً: إنها الريح، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في روايةٍ عنه، وتوقف ابن جرير في (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعرف، أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً؟" وهذا على قول من يقول: إنها الملائكة، كما فسرها أبو هريرة رضي الله عنه في رواية الحاكم ففي تفسير (العرف) قولان: الأول: أي أرسلت بالمعروف، والثاني: أي: المرسلات كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً، وعرف الفرس هو الشعر المتماوج الذي يتبع بعضه بعضاً، قال: "أو هي الرياح إذا هبت شيئاً فشيئاً"، فهي مرسلات ترسل فتهب شيئاً فشيئاً، ويتبع بعضها بعضاً.
إذاً: المرسلات إما أنها الملائكة يتبع بعضها بعضاً، وإما أنها الرياح يتبع بعضها بعضاً، وهذا على أن العرف مأخوذ من عرف الفرس.
ثم قال: "وقطع -أي: ابن جرير - بأن العاصفات عصفاً: الرياح، كما قاله ابن مسعود ومن تابعه" وهذا ظاهر من حيث اللغة أن العاصفات هي الرياح قال: "وممن قال ذلك في الْعَاصِفَاتِ عَصْفًا أيضاً: علي بن أبي طالب والسدي، وتوقف في الناشرات نشراً هل هي الملائكة أو الريح؟ كما تقدم".
لقد كان الإمام محمد بن جرير الطبري من أعلم الناس بالآثار، وتفسيره شاهد على ذلك، وقد كان يريد أن يمليه في ثلاثمائة مجلد، فلما استكثر طلابه ذلك قال: الله المستعان! ضعفت الهمم، فجعله في ثلاثين جزءاً، وهو إمام في اللغة والقراءات، ونجده يستدل على كل مسألة -تقريباً- فيها إشكال بلغة العرب وأشعارهم، ومع ذلك توقف في هذه المسائل؛ وذلك حتى لا يقال في كتاب الله تعالى بغير علم، والعلماء لا يعيبهم ولا يضيرهم أن يتوقفوا في مسألة أو مسائل، فقد توقف الإمام مالك في مسائل كثيرة، وتوقف الإمام أحمد في مسائل كثيرة، وهكذا دأب العلماء وشأنهم، أما التسرع في الفتيا، والقول على الله تعالى بغير علم، وإلقاء الكلام على عواهنه، فهذا شأن الذين يقولون على الله تعالى بغير علم، وهم مستحقون للوعيد والعذاب.
يقول: "وتوقف في الناشرات نشراً، هل هي الملائكة أو الريح؟ كما تقدم"، فيحتمل أنها الملائكة، ويحتمل أنها الريح من حيث اللغة، قال: "وعن أبي صالح أن الناشرات نشراً هي المطر"، يقول ابن كثير رحمه الله: "والأظهر أن المرسلات هي الرياح، كما قال تعالى: ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ))[الحجر:22] وقال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ))[الأعراف:57]" فقد رجع ابن كثير رحمه الله غير ما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنها الملائكة. قال: "وهكذا العاصفات هي الرياح، يقال: عصفت الرياح إذا هبت بتصويت، وكذا (النَّاشِرَاتِ) هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل"، إذاً: المرسلات والعاصفات والناشرات عند ابن كثير رحمه الله بمعنى الرياح، وهذا هو الراجح في العاصفات والناشرات، أما المرسلات ففيها خلاف كما سبق.
إلا أن يقال: إن الرياح عندما تعصف وتنشر فإن ذلك بتدبير الملائكة، فيكون المعنى متقارباً، فلا خلاف حينئذ بين القولين.