ولهذا استطرد الشيخ إلى ذكر الصفات المميزة، وليست مجرد شعارات، فقال: (كان السلف يسمون أهل الدين والعلم: القراء)، فكان مصطلح القراء يطلق على كل من يقرأ القرآن في عهد الصحابة، فلما خرجت الخوارج ، وكان كثير منهم من القراء، لكنهم كانوا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فكأن الناس أهملوا هذا اللقب حتى تخصص فيه من يجيد القراءة؛ بغض النظر عما فيه من صفات أخرى، لكن في أول الأمر كان القراء العباد يتميزون عن الأمة بصفة وهي: أنهم يقرءون القرآن، فالأمة كلها أولياء الله، لكن تميزوا بأنهم يقرءون القرآن، وهذه ميزة عظيمة ولا شك، والناس -والحمد لله- يعتبرونها ميزة إلى هذا الزمان، فيقولون: فلان قارئ لكلام الله.
ثم ظهرت الصوفية فأصبحوا يلقبون الأولياء بـالصوفية ، فعندما يتكلم عن أصناف الأمة يقال: الأمة فيها العلماء، وفيها الفقهاء، وفيها الأصوليون، وفيها المؤرخون، وفيها أهل اللغة، وفيها الصوفية ، فصار مصطلح الصوفية مصطلح يطلق على أهل العبادة والذكر والورع، وأما الفقهاء فالفقيه إنما يفتي الناس، وقد يكون على أية حال من حيث العبادة، وهذا التقسيم خطأ، فقد حدث التمايز بين الأمة بهذا الشكل.
ثم أصبح اسم الصوفية أو الفقراء محصوراً فيمن ينتظم في الطرق المعينة فقط، وليس في أي عابد، أو أي ذاكر، وهكذا يتغير ويتحدد الاصطلاح، والمقصود أن أولياء الله الحقيقيين لا يحصرهم شيء من ذلك، وأما الأوصاف الشرعية فإنها لا تعني الحصر أو التميز، بل كما تقدم في أول موضوع الإيمان: أن الألفاظ تختلف دلالتها عند الاقتران عنها عند الإفراد، فإذا قلنا: هؤلاء متقون، وهؤلاء مهاجرون، وهؤلاء مجاهدون، وعابدون؛ فهذه ليست متباينة؛ فإنها يمكن أن تقال وتطلق على فئة واحدة من عباد الله تكون هذه الصفات فيهم، لكن إذا قرنت فإنه يظهر التباين فيها كالإسلام والإيمان، فإذا قيل: هؤلاء مؤمنون ومجاهدون؛ فهمنا أن هؤلاء يشتغلون زيادة على الإيمان بقتال الكفار، لكن إذا قلت: هؤلاء مؤمنون؛ فإننا نفهم أن منهم المجاهد، ومنهم العابد، ومنهم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وطالب العلم وغير ذلك، وكذلك أهل الحق، أو أهل الدين، أو أهل السنة تشمل كل من كان على السنة حتى لو كان من العوام، وإن كان الأخص به هم العلماء العاملون بالسنة، لكن حتى العوام، وحتى أهل اللغة وأهل التاريخ إن كان أحدهم من أهل السنة ويؤرخ، وحتى الأديب إن كان أديباً وهو من أهل السنة والجماعة ، والكتّاب إن كانوا من أهل السنة ؛ فهم جميعاً من أهل السنة ، وكذلك القراء أو المهاجرون.
فهذه الألقاب كلها صفات شرعية تدل على أن صاحبها محقق لهذه الشعبة من شعب الإيمان، أو هذا العمل، أو هذا الوصف من أوصاف المؤمنين، وليست شارة أو شعاراً يطلق على فئة معينة من الناس وإن كان فيهم من يخالف هذا الوصف، فهذا هو الفرق بين الحق وبين الدعاوى الباطلة، وإلا فقد يأتي بعضهم ويقول: نحن مجاهدون، ولا جهاد فيهم، وربما يكونون من أهل البدع، فالأسماء بذاتها لا تدل على الحقائق، لكن الأوصاف الشرعية إذا استحقها الإنسان أو الأمة أو الطائفة فإنها توصف بها، وقد يوصف الإنسان أو الطائفة بأكثر من وصف؛ لترادف تلك الأسماء.