المادة كاملة    
تكلم هذا الدرس عن الشفاعة المثبتة عند النصارى والمشركين، مع ذكر الشبهة التي يستدلون بها والرد عليهم، ثم بيَّن أن الله يجيب دعوة الداعي ولو كان كافراً ، ثم تطرق إلى حال المشركين عند ركوبهم الفلك وإخلاصهم وتوحيدهم لله في تلك اللحظة وكفرهم به إذا نجوا، ذاكراً أهمية الدعاء وأنواعه، وحقيقة العبودية. وبعد ذلك ذكر إنكار المعتزلة والخوارج للشفاعة والرد عليهم، مبيناً أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، ثم انتقل إلى ذكر أن الله حد لنبيه صلى الله عليه وسلم حداً في الشفاعة، ذاكراً فائدة هذا الحد، وموضحاً شروط العبودية، وحقيقة وقوع الناس في الشرك.
  1. الشفاعة المثبتة عند النصارى والمشركين

     المرفق    
    اعلم أن الشَّفَاعَة التي يثبتها النَّصارَى والمُشْرِكُونَ من الغلو في المشايخ وغيرهم لا تكون إلا ممن لم يقدر الله حق قدره، فهم يظنون أنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى كالمخلوق، ويشبهونه بذلك.
    ويقولون: نطلب الشَّفَاعَة إليه بواسطة غيره ظناً وتوهماً منهم إما أنه لا يسمعهم ولا يعلم بحالهم، وإما أنه لا يقبل الضعفاء والمذنبين وأصحاب المعاصي والكبائر فيتشفعون ويتوسطون بالمقبولين لديه كما يزعمون.
    1. الشبهة التي يستدلون بها والرد عليها

      إن هذه الشبهة الشيطانية ألقاها الشيطان عَلَى أفواه كثير من الناس، فترى أحدهم إذا دعا غير الله أو توكل بذات من الذوات الصالحة إِلَى الله، وأنكرت عليه ذلك، يقول: أنا مسكين، وأنا مذنب، وأنا كثير الخطايا! كيف أدعو الله! وكيف أخاطبه وأصل إليه مباشرة وأنا في هذه الحالة وفي هذه المثابة، فلا بد أن أتوسل إليه أو أجعل بيني وبينه وساطة من أحد عباده الصالحين المقربين من الأَنْبِيَاء أو الأولياء.
      فأصل هذه الشبهة أنهم ما قدروا الله حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، وأعرضوا عما في كتابه وعما في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      من بيان حال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع عبادة الصالحين، فإن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) [البقرة:186].
    2. إجابة الله دعاء المضطر ولو كان كافراً

      إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قريب ممن يدعوه أياً كَانَ ذلك الداعي؛ حتى أن الكافر المضطر إذا دعا الله أجابه، وهو الذي يغيثه، فيكشف ما يدعون إليه إن شاء.
      كما ورد ذلك في آيات كثيرة من القرآن
      حيث ألزم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بضرورة إخلاص الدين له، وتوحيده وعبادته وحده، بأنهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا هاج بهم البحر وماج واضطرب وظنوا أن لا ملجأ لهم ولا منقذ من الله إلا أن يتوجهوا إليه وحده ((فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ))[العنكبوت:65]، فهم في حال الشدة يوحدون ويخلصون، وفي حال الرخاء يُشركون.
      فهذا إلزام ألزمهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، فمقتضى ربوبيته لهم أنه يرزقهم ويطعمهم كما قال تعالى: ((كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِِ وَهَؤُلاءِِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً))[الإسراء:20] نمد أهل اليمين المؤمنين، وأهل اليسار الكافرين، فلو لم يرزقهم الله فمن الذي يرزقهم؟
      ولو لم يكشف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الضر عن المضطر ويكشف السوء عمن دعاه مؤمناً كَانَ أو كافراً فمن الذي يكشف ذلك؟! لا أحد، فهذا مقتضى ربوبيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخاصيته وألوهيته أنه يفعل ذلك جل شأنه وهذا الإله الكريم الذي بيده خزائن كل شيء والذي إليه المنتهى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والذي يملك كل شيء في هذه الدنيا، فالله قد فتح الباب عَلَى أوسع ما يمكن لقبول توبة التائبين والمستغفرين، وكيف يتوسط إليه بخلقه، وهو كما قال الشاعر:
      الله يَغضبُ إنْ تَرَكتَ سُؤالهُ            وبُنيَّ آدَمَ حِينَ يُسألُ يَغضبُ
    3. غضب الله على من لم يدعه ويسأله

      ثبت في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {من لم يدع الله يغضب عليه} فالإِنسَان لو كَانَ أباً حنوناً رحيماً ودوداً عطوفاً وكان له ابن مدلل لا يرد له أي طلب -يحبه غاية الحب- ولكن إذا كرر عليه الابن الطلب فالأب يغضب، ويزجر ولده من كثرة ما يطلبه ويلح عليه في الطلب.
      فهذا هو حال المخلوق؛ لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلما ندعوه يرضى عنا، وبقدر ما ندعوه يكون الرضى عنا، فأكثرنا عبودية لله عَزَّ وَجَلَّ أكثرنا دعاءً له كما صح في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الدعاء هو العبادة} هذه هي حقيقة العبودية.
  2. إنكار المعتزلة والخوارج للشفاعة والرد عليهم

     المرفق    
    وأما المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشَّفَاعَة، فقد ذكر المُصنِّفُ أصل شبهتهم والرد عليها مع بيان مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ويعيد المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هذا المذهب فَيَقُولُ: [وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقرون بشفاعة نبينا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً].
    1. الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد

      تقدم أن ذكرنا أن شرطي الشَّفَاعَة هما: رضا الله عن المشفوع له، وإذنه للشافع ، فلذلك لا تكون الشَّفَاعَة، إلا لأهل التوحيد؛ لأن الله تَعَالَى يرضى أن يشفع لأهل التوحيد، ولا يرضى أن يشفع لأهل الكفر والشرك، وإذن الله تَعَالَى للشافع بأن يأذن للملائكة أو الأَنْبِيَاء أو الصالحين من المؤمنين أن يشفعوا لمن شاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذا قال: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ))[البقرة:255]، وقَالَ: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى))[الأنبياء:28] فلا يشفعون إلا لمن ارتضى، ولا يشفعون إلا بإذنه.
    2. حد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حداً في الشفاعة لا يتجاوزه

      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً] وهذا الشرط ليس زيادة عَلَى الشرطين السابقين، وهو: أن يحد له حداً، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يملك من الأمر شيئاً، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحد له حداً ليشفع في العصاة فيخرجهم من النار، ولا يستطيع أن يتجاوز ذلك الحد [كما بين ذلك في حديث الشَّفَاعَة {إنهم يأتون آدَمَ، ثُمَّ نُوحاً ثُمَّ إبراهيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، فيقول لهم عِيسَى عليه السَّلامُ: اذهبوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فإنَّهُ عَبْدٌ غُفر له مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَرَ، فَيأتُونِي، فَأَذهَبُ، فَإذَا رَأَيْتُ رَبِّي خَرَرْتُ لهُ سَاجِدَاً، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُها عَلَيَّ، لَا أُحْسِنُها الآنَ، فَيَقُولُ: أيْ مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، واشفَعْ تُشْفَّعْ، فأقول: رَبِّي أُمَّتِي، فَيَحُدُّ لي حَدّاً، فَأُدْخِلُهُم الجنَّةَ، ثُمَّ أَنْطَلِقُ فَأَسْجُدُ، فَيَحُدُّ لي حَدّاً} ذكرها ثلاث مرات].
      وهذا الحديث مروي في باب قول الله تعالى: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)) [صّ:75] الجزء الثالث عشر من فتح الباري صـ392، وقد ذكر الشيخ الأرنؤوط في تحقيقه أن هذه الزيادة لم ترد في صحيح البُخَارِيّ وهي ثابتة في الباب المذكور.
      فـالبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أورد الحديثين في بابين مختلفين، أورد الرواية السابقة التي ليس فيها لفظة [فَيَحُدُّ لي حَدّاً] في باب "كلام الرب عز وجل مع الأنبياء"، وأما هذه الرواية [فَيَحُدُّ لي حَدّاً] فذكرها في باب قوله تعالى: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي)) [صّ:75].
    3. فائدة زيادة ( فيحد لي حداً )

      هذه الزيادة في الرواية فيها فائدة تأكيد بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشفع إلا بإذن الله، وفيمن أذن الله له أن يشفع له، فهذا وهو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أفضل الخلق لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له، ويأذن له في أناس معينين مخصوصين.
      ثُمَّ ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ الاستشفاع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبغيره إِلَى الله تَعَالَى في الدنيا، وهذا الذي نريد أن نمهد له للدخول في موضوع الألوهية والشَّفَاعَة.
    4. افتقار العباد إلى الله

      نقول: إن كل بني آدم فقراء محتاجون ومضطرون إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وأصل وأساس العبودية مبني عَلَى افتقار المخلوق الضعيف المرهوب المقهور العاجز الذي لا حيلة له إلا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن النَّاس من يدرك هذه الفاقة وهذه الحاجة إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وكثيرٌ منهم لا يدركها، ولكنه لو فكر وتأمل لوجدها قائمة، فالإِنسَان الذي يدرك هذه الحاجة -وكل بني آدم لا بد أن يدركها يوماً ما- في ذهنه وفي فطرته الضعيفة العاجزة.
      فهو يسعى ليحقق ما يطمح إليه من النفع ويدفع ما يخافه من الضُر الذي ينزل به والعوارض التي تعرض له، فتحول بينه وبين تحقيق الآمال التي يسعى إليها، فأياً كَانَ دينه، وأياً كانت بيئته سواء كَانَ معترفاً بربه أو منكراً له، تجده دائماً يعمل من أجل ذلك، ولذلك تجده في أي وقت من الأوقات لابد أن يدعو ربه، فالإِنسَان ضعيف فقير محتاج لا يستطيع أن يقوم بنفسه، ولا أن يحقق لها ما تريده أبداً، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متفرد بأنه ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [يّـس:82] فهذا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده، أما بقية النَّاس فهم محتاجون مخلوقون فلا بد أن يلجئوا إِلَى من يدعونه ليحقق لهم حاجتهم ومرادهم.
  3. شروط العبودية

     المرفق    
    الإِنسَان محتاج وفقير ومضطر، ولا بُدّ أن يدعو غيره وأن يلجأ إليه وأن يتوسل به، وهذا هو أصل عبودية أي عابد، ولهذا فإن العبودية لا تكون عبودية إلا أن يتحقق فيها شرطان هما: الحب من جهة، والخضوع والذل من جهة أخرى.
    فإذا أحب إنسان شيئاً ولم يخضع له وينقاد فهذا لا يسمى عابداً، ولو أن أحداً خضع وذل وانقاد لأمر وهو كاره له فهذا لا يسمى عابداً أيضاً، فالعبودية: معناها أن يجتمع في الإِنسَان كمال الحب مع كمال الذل والخضوع، فالنّاس هذا حالهم وهذا شأنهم، أما أهل التوحيد فإنهم أخذوا الأسباب والأمور من مصادرها الصحيحة وعملوا بالأسباب وطلبوها من خالقها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأهل التوحيد من الأَنْبِيَاء والصالحين ومن اتبعهم يعلموا أن كل شيء بيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن افتقاره هذا لا يكون إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن كل مخلوق مفتقر إِلَى من يقضي له حاجاته، فكلنا فقراء لله تَعَالَى.
    1. الموحد الحقيقي الصادق

      الموحد الحقيقي المخلص هو من يدعو ويرفع حاجته إِلَى الغني الحميد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال الله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15] {يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم}.
      ويقول بعد ذلك: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا عَلَى صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} هذا هو غاية الكرم، مع غاية الغنى، فالغنى والكمال المطلق هو لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو الغني الحميد،
      فأهل التوحيد والإيمان أدركوا أن الله بيده خزائن كل شيء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهو الذي بيده مفاتح الغيب وهو وحده الرزاق ذو القوة المتين كما قال عن نفسه: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) [هود:6].
      إن دُعيَّ الملائكة، فهم عباد مكرمون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولكنهم لا يعصون الله ما أمرهم أبداً، هم عباد من عباد الله يرجون الله، وهم من خشيته مشفقون، ولا يعصون أمره، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وإن عبد الأنبياء، فالأنبياء بشر مثلنا، عاشوا عَلَى هذه الأرض كما نعيش، ولاقوا من المحن والشدائد ما جعلهم يلجأون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليكشف عنهم ذلك الكرب وذلك الضر، والأولياء أو الصالحون لا شك أنهم أدنى درجة من الأنبياء، فقضية التوحيد واضحة لِمَن بصَّره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتفكر وتأمل، أمرٌ جلي واضح أن المسئول المدعو هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواء كَانَ ذلك دعاء عبادة أو دعاء مسألة فالأمر يرجع كله إِلَى حاجة المخلوقين واضطرارهم وافتقارهم إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    2. حقيقة وقوع الناس في الشرك

      إذا لجأ الفقير إلى فقير مثله، ولجأ الضعيف إلى ضعيف مثله، أو نصب الضعيف نفسه إلهاً من دون الله، وقَالَ: ادعوني وأنا أجيبكم، فهذا إخلال بالتوحيد، وهذا لا يفعله إلا من لم يقدِّر الله حق قدره، ولم يفقه حقيقة التوحيد ولا آمن بالله تَعَالَى حق الإيمان، وإن زعم ذلك كما قال تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106] هذه حقيقة واقعة، ووقوع النَّاس في الشرك ظناً منهم أن غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحقق لهم ما يريدون، هو الذي جعلهم يجرون وراء السراب وظنوا أن هذا الغير أياً كَانَ يُتوسط ويتوسل به إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيحقق لهم ما يريدون.
      فإذا اعتقد العبد المؤمن وعرف واستيقن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده المدعو المرجو الذي يخاف ويرجى ويدعى ويستغاث ويلاذ ويستجار به، فإنه بعد ذلك لا يحتاج إلى أن يدعو غير الله، ولا أن يتوسط أو يتوسل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بغيره، وهو {الذي يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار}، فليس هنالك أكرم ولا أحلم من هذا الإله.
      وبعد ذلك ذكر حال المدعوين المعبودين من دونهم فقَالَ: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ))[الإسراء:57].
      فهذه الوسيلة إلى هذا الإله الجليل العظيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومع هذا الكرم والفضل والمنِّة هل يسد الطرق الموصلة إليه التي يتوسل أو يتوسط بها العبد إليه فلا يبقى إلا أن يُدعَى ويعبد غيره أو يستشفع إليه بغيره. هل يليق ذلك بكرمه وبفضله وإنعامه، وهو الذي يمد هَؤُلاءِ وهؤلاء، وهو الذي يغيث الكفار إذا دعوه فضلاً عن المؤمنين؟! لا يليق به سبحانه أبداً؛ ولكن هذا من عمى البصائر.
    3. تفسير المبتدعة لقوله تعالى : (( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ))

      لقد فسر المُشْرِكُونَ قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) [المائدة:35] بقولهم أي: ابحثوا عن مخلوق تتوسلون به إِلَى الله سُبْحانَ اللَّه!
      ولما ذكر الله حال عبادة المؤمنين من الأَنْبِيَاء والملائكة والصالحين قَالَ: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ))[الإسراء:57] يدعونه بأسمائه الحسنى، كما في الحديث {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك} أي أن تسأل الله بأسمائه.
  4. دعاء المسألة ودعاء العبادة

     المرفق    
    دعاء المسألة: هو أن ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأسمائه الحسنى، وهذا أعظم شيء ندعوه بها، ودعاء العبادة هو أن ندعو الله بأعمالنا التي نتعبده بها كصلاتنا له وذكرنا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    1. الوصول إلى الله يكون بدعاء المسألة أو دعاء العبادة

      نستطيع أن نصل إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن نحقق له وحده التوحيد، وأن لا ندعو غيره بوسيلتين: إما أن ندعوه بأسمائه الحسنى، وإما أن نتوسل إليه بعبادتنا:
      ففي الحالة الأولى: دعوناه وحده، وفي الحالة الثانية: دعوناه بعمل عبدناه وحده به، ولو كَانَ هذا العمل فيه شائبة من الشرك لما تقبل منا ذلك الدعاء؛ ولهذا فالثلاثة الذين دخلوا الغار، لما سألوا الله، سألوه بأعمال عملوها خالصة لوجهه تعالى، فهي من تحقيق الإيمان ومن تحقيق الطاعة ومن تحقيق التوحيد؛ ولذا لمّا سألوا الله بتلك الأعمال استجيب لهم.
    2. التوحيد مفزع الأولياء ومفزع الأعداء وأساس كل خير

      التوحيد هو مفزع الأولياء كما هو مفزع الأعداء، فالمؤمن إذا حزبه أو همه أمر يفزع فيسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالصاً من قلبه، فيتحقق له دعاؤه بتوحيد الله في الدعاء، أو بدعائه بأمر أخلص فيه فيدعوه وحده، ويدعوه بعمل طاعة أخلص فيها لله، فهذا مفزع أوليائه وأصفيائه، وهو كذلك مفزع أعدائه، فإذا حز بهم أو أهمهم أمر وأرادوا أن يستجاب لهم دعوا الله مخلصين له الدين فيستجاب لهم.
      إذاً: التوحيد هو أساس كل خير، فهو الذي يحقق للإنسان الخير سواء كَانَ مؤمناً أو كافراً، لأن الكافر يخلص في تلك اللحظة لكنه بعدها ينتكس عَلَى عقبيه، وهذا أيضاً يكون للمؤمنين ولكن فيما دون الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    3. عدم إظهار النفس البشرية افتقارها إلى الله

      النفس البشرية لا تظهر افتقارها إِلَى الله في كل حال من الأحوال، ولو أننا أظهرنا فقرنا وتضرعنا وانكسارنا وذلنا لربنا عَزَّ وَجَلَّ في كل وقت، لكنا عبيداً له في كل وقت، لكن هذه مشكلتنا ((وَإِذَا مَسَّ الإِنسَان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)) [يونس:12].
      فالإِنسَان في حالة الشدة يعترف ويقر بفقره إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، فيعاهد نفسه عَلَى أن يستمر عبداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا عافاه الله بعد المرض أو أغناه بعد الفقر نكص عَلَى عقبيه، كما قال الله عن المنافقين ((وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) [التوبة:75-76] وهذا ليس خاصاً بالمنافقين بل حتى المؤمن قد يقع منه ما يشبه ذلك أو يقاربه.