وهذا بخلاف قول المشركين: إن هذا القرآن كلام شاعر، أو كلام كاهن، والكاهن معروف عندهم أنه تلقى من الشياطين، وهذا من أعظم ما رد به الكفار الإيمان بالوحي، فإنهم ظنوا أن الشياطين تتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ميز الله في آيات واضحة كثيرة بين الكلام الملقى من طريق الملك، وبين ما يلقى إلى الكاهن، وبين ما يقوله الشاعر، كما في قوله: ((
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ))[الشعراء:210-212]، أي: فيما يتعلق بالوحي وكلام الله فهم معزولون عنه، ومن سمع منه شيئاً فإنه يتبعه شهاب مبين، وقد وضع الله بعد بعثة النبي على السماء الحراسة المشددة، فكانت النجوم من قبل تتساقط في الحين، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قوي هذا الأمر، وأصبح واضحاً جلياً يراه كل أحد، فتسقط على هؤلاء الكذابين المفترين.ثم قال بعد ذلك: ((
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ *
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ))[الشعراء:221-223].إذاً: فحال هذا غير حال هذا؛ فالأفاك الأثيم غير الطاهر الصادق الأمين، فالروح الأمين ينزل، وهو غير ذلك الشيطان، فالشيطان إنما ينزل على الأفاك الأثيم.ثم قال: ((
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، وهذا أيضاً لنفرق بين الشاعر، والكاهن؛ والرسول، وهناك وجه شبه وهو: أن كلاً من هؤلاء يتلقى، والشاعر قد لا يتلقى لكن لديه سبب خفي لطيف يقع له، فالله تعالى يوضح أن الفرق واضح، وهو: أن القرآن ليس بقول كاهن، ولا بقول شاعر، ((
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ))[يس:69]، فالقرآن كلام الله يتنزل به الملك على محمد صلى الله عليه وسلم، ((
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ *
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ))[الشعراء:193-195] فلا يمكن أن يدخله اللبس، وأما الكهّان فهم أفاكون آثمون دجالون وكان العرب إذا ذهبوا إليهم يخبئون خبئاً؛ حتى ينفق كذبهم، فيقولون للكاهن: خبئنا لك شيئاً، فيقول الكاهن: كذا، فإذا عرف ما خبئ سألوه، وقالوا: إذاً هذا عنده علم بالغيب.ويذكرون هنا قصة لا يهمنا سندها أو صحتها وهي: أن
أبا سفيان أو غيره ذهب إلى أحد الكهان وقد خبأ حبة في إحليل أحد الخيول، فقالوا للكاهن: خبئنا خبئاً ما هو؟ قال: ثمرة في كمرة، قالوا: زد وضوحاً، قال: حبة بر في إحليل مهر. وهذا السجع طريقة الكهان دائماً، ثم بعد ذلك يسألونه عما يريدون، وهذا كثير في أخبار العرب وأشعارهم في الجاهلية أنهم يخبئون. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع
ابن صياد ، فقد خبأ الدخان، فقال: (
دخ دخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ، فلن تعدو قدرك )، يعني: إنما أنت كاهن دجال، وليس كما يزعم أنه يوحى إليه، ففرق كبير بين هؤلاء وبين الأنبياء.