يقول شيخ الإسلام: (وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان، ولا التقوى، ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون ولياً لله؛ فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من التصرف).
قوله: (مكاشفة سمعها منه)، أي: أن يقول: هذا المجنون ولي، فإذا قيل له: كيف عرفت أنه ولي؟ قال: لقد حدثني بأمر من أمور الغيب ما أخبرني به قبله أحد، فوجدت أن ذلك حق، أو حدثه بأمر يجهله المخاطب فصدقه، فإذا قيل: كيف تفسر إخباره بشيء لا يستطيع أن يعرفه حتى لو كان عاقلاً؟
فنقول: إن الشياطين تكلمت على لسان المصروع، حتى إن الضرب الذي قد يضرب به من به مس وقد تلبس به جني؛ لا يقع على الآدمي، وإنما يقع على الجني، وهذا معروف مشاهد، ومن أنكر ذلك ممن يدعون أنهم أصحاب عقول، أو العقلانية؛ فهم أصحاب جهل، فهذا أمر معلوم قديماً وحديثاً أن الشياطين تتلبس بالإنس.
وقد ذكر الله ذلك في القرآن، قال تعالى: (( الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ))[البقرة:275]، فهذا الذي يتخبطه الشيطان من المس قد ينطق بكلام لا ينطق به الإنس، ولو ضرب فلا يشعر بذلك الضرب الإنسي، وغير ذلك من الأمور، حتى إن الرجل الإنسي المصاب قد يكون من بلد ولا يعرف لغة غير لغة بلده، فإذا تلبس به الشيطان تكلم بلغة غير لغته، أو أتي بعلوم لا يعرفها ذلك المصروع، فنعلم أن ذلك ليس من علمه، ولا من كلامه.
فهذا يدل على أنه لو أخبرك أحد من أهل الجنون عن أمر غائب فكان الأمر كما قال؛ فإنك لا تعتقد بناءً على ذلك أن هذا المجنون ولي؛ لأن الشياطين قد تخبر على لسانه بحق أو بباطل، ولذلك يكثر في مثل هؤلاء -القائلين بهذا القول- الضلال؛ لأن الشيطان المتلبس به قد يكون بوذياً، أو نصرانياً، أو يهودياً، فإذا تلبس بأحد من هؤلاء المجانين المزعوم أنه ولي وعابد من العباد، وأنه إنما جن من كثرة العبادة والذكر والتسبيح، وأخذوا يسألونه فربما أجابهم بكلام يقتضي الحلول، أو وحدة الوجود، تعالى الله عما يصفون، أو تصحيح شيء مما في الأناجيل مما هو كفر وتحريف، أو غير ذلك من الضلالات، فيؤخذ على أنه كلام مسلَّم وإن خالف القرآن والسنة.
والله تعالى قد أغنانا عما يلقيه الشيطان إلى المجنون بما يلقيه الملك الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم، فعندنا الوحي من القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نقبل ما يخالف الوحي الذي نزل به الروح الأمين؛ على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ووصلنا وبلغنا عن طريق التواتر، أو عن طريق السند الصحيح من السنة؟ كيف يمكن أن ندع هذا ونأخذ كلام مجنون؟!