ومن قرأ في طبقات الشعراني وأشباهها فإنه يجد أن الولي هو المتعري، والمجنون، والمتكشف، والذي يأكل من المزبلة، ويرتكب الفواحش أمام الناس، ولا يحضر جمعة، ولا جماعة، فهو مجنون بمعنى الكلمة، فلذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا، وهم يظنون أن ذلك نتيجة الذكر والخوف، ويقولون في الثناء عليهم:
مجانين إلا أن شر جنونهم             عزيز على أبوابه يسجد العقل
فيمدحونهم بما ليس فيهم، فجنونهم ليس كجنون هؤلاء الذي عندهم أمراض عصبية، والعقل لا يستطيع أن يصل إلى سر جنون هؤلاء المجانين، فلو كان الأمر كذلك لكان أولى الناس بهذه الحالات وهذا الصرع وهذا الجنون هم أفضل الخلق، وأفضل الناس عبادة بعد الأنبياء وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين فضلهم الله واصطفاهم من هذه الأمة المباركة المصطفاة.
إذاً: فلا يكون المجانين ولا الأطفال أولياء لله بهذا المعنى، ولذلك يقول شيخ الإسلام: (وكذلك المجانين والأطفال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ )، وهذا الحديث رواه أهل السنن من حديث علي ، و عائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول، لكن الصبي المميز تصح عباداته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء).
أي: أن الفرق بين الذي سبق ذكرهم: أن الصبي المميز تصح عبادته، ويثاب عليها، كما هو القول الراجح عند العلماء، ومن الأدلة على ذلك: صحة الحج، والأمر بالصلاة؛ لأنهم إذا أمروا بذلك فلا يمكن أن يأمر الله بشيء عبثاً، ولا يؤجر عليه فاعله، وأصرح من ذلك ما جاء أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألهذا حج؟ قال: نعم؛ ولك أجر )، فمادام أن له حجاً فعباداته صحيحة، وإذا كانت عبادته صحيحة فإنه يؤجر عليها.
وكذلك يعاقب الطفل المميز؛ ولو من باب العقوبات التأديبية التعزيرية في الدنيا، فهذا جانب يختلف فيه الطفل عن المجنون، والمهم في الذكر هنا هو المجنون؛ لأن هؤلاء الأولياء المزعومين هم مجانين، أو ممن يسمون: بمجانين الأولياء.
قال: (وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر)، فلا يقال: إنه مؤمن، ولا يقال: إنه كافر؛ لأنه فاقد لمناط التكليف وهو: العقل.
قال: (ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات)، ولهذا نجد بعض العلماء في الفقه يطيلون في هذه الأمور، فيذكرون في شروط الحج، أو الصلاة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والبعض لا يذكرها؛ لأنه من البدهي أن يكون مسلماً؛ لأننا لا نتكلم إلا عن المسلمين، فالبعض يذكرها والبعض لا يذكرها فمن لا يذكرها، إنما ذلك لبداهتها ووضوحها؛ لأنه لا يخاطب بأحكام الله إلا من يعقل، وأما المجنون فالقلم مرفوع عنه، ولا تصح منه أي عبادة.
بل يقول شيخ الإسلام: (بل ولا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة). أي: أن أهل الدنيا لا يولون المجنون تجارة، ولا صناعة، (فلا يصح أن يكون بزازاً، ولا عطاراً، ولا حداداً، ولا بخاراً) ولا أي عمل آخر.
قال: (ولا تصح عقوده باتفاق العلماء، فلا يصح بيعه، ولا شراؤه، ولا نكاحه، ولا طلاقه، ولا إقراره، ولا شهادته ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي لا إيجاباً ولا سلباً، ولا يتعلق بها ثواب ولا عقاب؛ بخلاف الصبي المميز).