المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[وأما الملائكة، فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم، فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5].. ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم.
وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكَّل بالجبال ملائكة، ووكَّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكَّل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكَّل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته] اهـ.
  1. الإيمان بالملائكة من دواعي التقوى والإخلاص

    الشرح:
    هؤلاء هم العباد المكرمون، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يجب على كل مؤمن أن يؤمن بهم في الجملة، وبكل ما ورد وصح من صفاتهم وأعمالهم، والواجب على التفصيل: أن من ذكره الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم فنؤمن باسمه، وبما ذكر من عمله وصفته.
    وإذا كان العبد المؤمن في حالة من الوساوس، والمعاصي والذنوب، وتذكر أن لله تبارك وتعالى خلقاً يتنزهون عما يرتكبه بنو آدم من الآثام والخطايا، وعما يجول في قلوبهم من الشبهات والشهوات والوساوس، وأن هؤلاء الخلق المطهرين المبرئين من ذلك يحبون المؤمنين، ويوادونهم ويعاونونهم بإذن الله تعالى، وينصرونهم، فهم جند الله تبارك وتعالى، الذين بهم يدبر أمر هذا العالم، وبهم ينصر ويؤيد عباده المؤمنين -عندما يتأمل المؤمن ذلك؛ فإنه لا يشعر بالغربة بين الناس، وإن جاروا عليه وظلموه، وإن ارتكبوا من الخطايا والآثام ما ارتكبوا، وإن كان وحيداً غريباً في أي مكان، فإن الله سبحانه وتعالى تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا))[الإسراء:44].
    وهؤلاء العباد المكرمون يعبدونه ويسبحونه، وهذا العبد الصالح من بني آدم يعبد الله ويدعو إليه ويذكره ويسبحه، فبقي الشذوذ في هؤلاء الكفار، فهم شواذ وإن كثر عددهم في الأرض، وعليهم تدور الدائرة، وتكون العاقبة للمتقين.
    فهذه المعاني إذا استحضرها العبد المؤمن، واستحضر مع ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد وكلهم بكتابة الأعمال وحفظها؛ فإن ذلك من دواعي التقوى والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والرغبة إليه والرهبة من عذابه عز وجل. وهذه فائدة من فوائد كثيرة يستفيدها المؤمن إذا آمن بالملائكة كما أمر الله تبارك وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
  2. اعتقاد الفلاسفة والباطنية في الملائكة وأصل ضلالهم

    وقد ذكر الشارح رحمه الله أن من الناس من زعم أن الذي يدبر العالم هي النجوم أو غيرها، وهذا من اعتقادات المشركين الكافرين، الذين كفروا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ولا حَظَّ لهم في نعيم الله عز وجل ولا في ولايته، ولكن هناك طوائف تكلمت في الملائكة على سبيل التأويل، والتأويل هو باب الشر العظيم الذي فتحه علينا أهل الضلال، فأولوا أسماء الله تعالى وصفاته، وأولوا أمور الآخرة، ومن جملة ما أولوا: الملائكة، فمنهم من أول حقيقة الملائكة، فلم ينكروا أن كلمة الملائكة موجودة في القرآن والسنة، لكنهم قالوا: إن معناها غير ما بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفهمه السلف الصالح من هذا الخلق الخاص المعين.
    وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله كما في الفتاوى (4/259): "هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون؟" وذلك لأن بعض الناس يعتقد أنهم لا يموتون.
    "فأجاب: الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، وحتى عزرائيل ملك الموت، وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة الله عليه؛ وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم، ومن دخل معهم من المنتسبين إلى الإسلام، أو اليهود والنصارى: كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم، ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم".
    إذاً: الذين يؤولون الملائكة هم الباطنية والفلاسفة، ومذهبهم متقارب -وقد سبق أن ذكرنا ذلك- وهم يؤولون الملائكة بالعقول، فإن أرسطو يقول: "إن الله -أو العلة الأولى- خلق عشرة عقول، فخلق العقل الأول، والأول خلق الثاني... إلى العاشر، ثم العاشر هو الذي خلق الكون وهو الذي يدبره! هذه هي خيالات وسفسطات أرسطو، التي جاء بها من غير برهان ولا حجة، لا من النقل ولا من العقل، بل هذا هو كفره وضلاله.
    وأرسطو يعتبر شيخ الضلالة الأكبر في العالم اليوم، بل إنه المعبود الأكبر في الفكر الغربي، وقد انتقل إلى الفكر الشرقي عند الباطنية والفلاسفة .
    وكل شر في أي علم من العلوم التي أخرجها أهلها عن الدين؛ كعلم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، وغيرها، يبدأ من أرسطو وأتباعه.
    ولماذا أولوا الملائكة؟ لقد أخذوا كلام أرسطو، وحتى لا يظهروا أمام المسلمين أنهم كفروا بالقرآن، قالوا: ما سماه القرآن ملائكة فهو الذي سماه أرسطو : العقول، فأولوا الملائكة بأنها العقول العشرة، أو النفوس؛ لأن بعضهم يقول: إن العقل الكلي خلق النفس الكلية... إلى آخر ذلك الهراء الذي لا داعي للإطالة فيه، قالوا: ولا يمكن موتها بحال، وذلك لأن هذا العالم عندهم ليس له أول ولا آخر، أي: لا ابتداء له ولا انتهاء، والذي يدبره ويحركه هي هذه العقول العشرة، فكيف تموت هذه العقول ؟ ولذلك قالوا: إنها لا تموت.
  3. الكلام على الاستثناء في قوله تعالى: (إلا من شاء الله)

    ثم قال رحمه الله: "والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا))[النساء:172]"، ثم بين رحمه الله المراد من الاستثناء في قوله تعالى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ))[الزمر:68]؛ لأن بعض العلماء يقول: هم الملائكة، فقال رحمه الله: "وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت".
    إذاً: الحور العين والولدان وأهل الجنة عموماً لا يموتون؛ لأن الجنة لا موت فيها، فهي دار بقاء، وليست دار فناء. يقول: "ومتناول لغيرهم -أي: لا يمنع أيضاً أن يدخل فيه غيرهم- ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه" أي: أن الله أطلق أنه يستثني من شاء، فلا نستطيع أن نجزم بأن ذلك محصور في أهل الجنة وحدهم إلا بدليل، يقول: "وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله؟}".
    وفي رواية: {فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟} كما في قوله تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا))[الأعراف:143]، يقول شيخ الإسلام : "وبكل حال: النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى الله؛ لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر"، أي: أنه لا يعلم ذلك إلا بالخبر الصحيح، أما بغير ذلك فلا يعلم.
  4. سجود الملائكة لآدم

    ثم سئل شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "عن آدم لما خلقه الله ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكـته: هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة الخلد الموجودة، أم جنة في الأرض خلقها الله له؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الأرض؟ أم من أرض إلى أرض مثل بني إسرائيل؟
    فأجاب: الحمد لله، بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ))[الحجر:30]، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم والاستغراق، فإن قوله: (الملائكة) يقتضي جميع الملائكة؛ لأن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم، كقوله: (رب الملائكة والروح) فهو رب جميع الملائكة.
    الثاني: قوله تعالى: (كُلُّهُمْ) وهذا من أبلغ العموم"، وهي عند اللغويين والبلاغيين والمناطقة أيضاً من أبلغ ألفاظ العموم، فإذا قلت: جاء القوم كلهم، فمعنى ذلك أنهم جاءوا جميعاً ولم يبق منهم أحد. يقول: "والثالث: قوله: (أَجْمَعُونَ) وهذا توكيد للعموم". وهذه الآية من أبلغ الآيات المؤكدة لذلك، وفي مثل هذا الموضع يقول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: [ما من شبهة إلا وجوابها في كتاب الله]، فقد قال بعض الناس: إنه لم يسجد لآدم إلا بعض الملائكة، والله تعالى يقول: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ))، فماذا بقي بعد كلام الله عز وجل؟
    يقول: "فمن قال: إنه لم يسجد له جميع الملائكة، بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى"، وشيخ الإسلام رحمه الله يريد أن يقول: إن الباطنية والفلاسفة أتباع أرسطو خارجون عن جميع الأديان والملل، فليسوا من المسلمين، ولا متبعين لهم، ولا متبعين لأهل الكتاب، فهذا القول هو قول أقوال الخارجين عن أهل الملل، وليس له أصل في الكتب ولا عند أهل الكتب، وإنما هو مأخوذ عن الوثنيين اليونانيين، يقول: "وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة، الذين يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل".
    وهنا يذكر شيخ الإسلام عنهم تأويلاً جديداً، وهذا دليل على أنهم ليسوا على مذهب واحد، بل إنهم فرق وشيع، فمنهم من قال: ليس هناك ملائكة تأمر الإنسان بالطاعة وتحثه عليها، وإنما هي هذه القوى الصالحة، فالإنسان عنده قوى ونوازع وملكات صالحة، وهي الملائكة، وعنده أيضاً نوازع ودوافع ورغبات وملكات غير صالحة، وهي الشياطين، فلا وجود لحقائق أخرى، وهذا الكلام هو ما يقوله علماء النفس -كما يسمون اليوم- وهو قول كثير من المعاصرين الذين أنكروا المعجزات والغيبيات من أتباع المدرسة العقلية كما تسمى، وهي ليست بعقلية، وإنما هي جهلية؛ لأنهم اتبعوا الجهل والرأي، أما العقل فهو مؤيد لما في الكتاب والسنة.
    يقول: "ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب رسائل إخوان الصفا، وأمثالهم من القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة"، أي: أن بعض المتكلمة وهم أصحاب الكلام، وبعض المتعبدة وهم المتصوفة، قد اتبعوا أولئك الباطنية وانطلت عليهم حيلهم. يقول: "وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه"، فإن بعض كتب التفسير تخلط مثل هذه الأقوال.
  5. إبليس ليس من الملائكة في الأصل والطبع

    يقول رحمه الله: [ومذهب المسلمين واليهود والنصارى ما أخبر الله به في القرآن، ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين]، وهنا يبين شيخ الإسلام: هل إبليس اللعين من الملائكة؟ فيقول رحمه الله: "ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين؛ لكن أبوهم إبليس كان مأموراً فامتنع وعصى، وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود"، أي: في قوله تعالى: (( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ))[الحجر:30-31] قالوا: فلما أمر إبليس بالسجود مع الملائكة واستثني منهم؛ دل ذلك على أنه منهم، قال: "وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود، وبعضهم من الجن؛ لأن له قبيلاً وذرية"، وهذا هو القول الثاني: وهو أن إبليس من الجن، وقد نص عليه القرآن في قوله تعالى في سورة الكهف: ((إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ))[الكهف:50]، ولأن له ذريةً وقبيلاً، قال تعالى: ((إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ))[الأعراف:27]، والملائكة طبيعتهم غير ذلك، فلا يتزاوجون، ولا ذرية لهم ولا نسل، فهو إذاً يخالف جنس الملائكة من حيث أصله وعنصره الذي خلقه الله سبحانه وتعالى منه، قال: "ولكونه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور"، فاختلف عن الملائكة في الخلق والطبيعة، فليس منهم، قال رحمه الله: "والتحقيق: أنه كان منهم باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله، ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة؛ لا جبرائيل، ولا ميكائيل ولا غيرهما"، أي: أن كل الملائكة سجدوا، حتى جبرائيل وميكائيل، أما إبليس فهو منهم باعتبار صورته ووضعه، فإنه كان يعيش معهم، وكان مأموراً بأن يعمل أعمالهم، ولم يكن منهم باعتبار أصله ومثاله، فهو مختلف عنهم في الأصل وفي الطبع.
    إذاً: هذا بالنسبة إلى من أول الملائكة؛ لأن هناك من لا يؤمن بهم أصلاً، وهناك من أولهم احتراماً لحروف القرآن فقط، فقالوا: لا ننكرها، لكنها ليست كما يظن الناس، وإنما هي العقول، أو النفوس، أو الطبائع الخيرة... إلى آخر ما قالوا.
  6. الملائكة خلقوا من نور

    وأما مادة خلقهم، فإنهم خلقوا من نور، كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم} فخلق الله تعالى الملائكة من نور، ولذلك فلهم طبيعة خاصة جعلها الله سبحانه وتعالى لهم تختلف عن الإنس وعن الجن، وعن بقية المخلوقات.
  7. الملائكة هم المدبرون للكون والحكمة من ذلك

    ثم يقول رحمه الله: [فكل حركة في العالم، فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5].. ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4]، وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل].
    وقد جاء ذلك عن علي رضي الله عنه، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح (8/599)، وقد رواه ابن عيينة رحمه الله تعالى في تفسيره، ورواه غيره، وقد ذكر الطبري رحمه الله أسانيد كثيرة في إثبات هذا القول عن علي رضي الله تعالى عنه، وجاء عن مجاهد عن ابن عباس وهذا مما لا يكاد يخالف فيه، وهو أن (المدبرات أمراً) هم الملائكة، وكذلك المقسمات أمراً.
    وقد استدل المصنف رحمه الله بقوله تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5] على أن كل حركة في العالم فهي ناشئـة عن الملائكة، مع أن الله تعالى يقول: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82]، وقوله: ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[النحل:40]؛ فالله تعالى يخلق ويدبر بقوله: (كُنْ)، فما الحكمة في أن الله سبحانه وتعالى يجعل ملائكة موكلين بالجبال، وملائكة بالمطر والسحاب، وملائكة ببني آدم... إلى آخر ما سيأتي تفصيله إن شاء الله؟
    هناك حكم عظيمة، منها: أن الله عز وجل يبتلي عباده بالإيمان بالغيب، فإن الناس يرون السحاب يسقي أرضاً ويترك أخرى، ويرون كل المخلوقات وهي تسير بتدبير عجيب، فإذا تأملوا في ذلك، وعلموا أن الله سبحانه وتعالى جعل لها هؤلاء العباد المكرمين، يدبرونها ويسيرونها، فقد آمنوا بالغيب، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فإن الكافر عندما يرى هذه الظواهر يقول: هذا شيء طبيعي، فإن الشمس عندما سطعت على البحر تبخر، ثم ذهب البخار إلى أماكن معينة، وحصل بعد ذلك انخفاض وارتفاع جوي، ثم تكوَّن السحاب، والتقى بمناطق باردة... فنزل المطر، فيجعلونه ظاهرة طبيعية فقط، وقد تكون تفاصيلها صحيحة، ونحن لا نعترض على صحة هذه التفاصيل، لكنهم ينسون ويُغفِلون ما لا يرون: ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ))[الروم:7].
    فالله تعالى يمتحن المؤمنين بالإيمان بالغيب، وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى له أمور يدبرها ويخلقها وينشئها بقوله: (كُنْ)، وله أمور ينشـئها ويدبرها بواسطة الملائكة، ولا أحد يعترض على الله سبحانه وتعالى، والأصل أنه لا يسـأل عما يفعل وهم يسألون.
    وقد عبد بعض الناس الملائكة؛ قالوا: لأنهم بنات الله -تعالى الله عما يقولون- وبعضهم يقول: لأنها هي التي تدبر الأمر، فقد أخذوا من كلام الرسل أن الملائكة تدبر أمور الكون، فقالوا: نعبدها لتقربنا إلى من خلقها وأمرها بالتدبير؛ لتكون شفعاء وواسطة لنا عند الله؛ لأنها مقربة من الله سبحانه وتعالى، فنحن ندعوها ونرجوها ونخافها لكي تتوسط لنا عند الله، فمن هنا دخلت الشبهة على المشركين فعبدوهم، وهذا من الباطل؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وجعل له إرادة وقدرة، وجعل له أعمالاً، وخلق الملائكة وجعل لهم أعمالاً، وإن كانت الطبيعة تختلف، فلا يصح أن يعبد شيء لمجرد أنه من جند الله، فالشمس التي تشرق وتعم الناس بالضياء، ويحصل لهم خير كثير بشروقها، والسحاب الذي يمطر ويحصل به الخير العظيم، لا يصح أن تعبد لأنه قد حصل منها خير للناس، فإنما هي من جند الله وخلقه سبحانه وتعالى، فلا شبهة ولا حجة لمن يعبد الملائكة أو غيرهم من دون الله سبحانه وتعالى، بل عليه أن يعبد الله الذي خلقهم : ((وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ))[فصلت:37]، فهو الذي خلق الملائكة والسحاب، وخلق الأنبياء والصالحين واصطفاهم.