وليس معنى هذا أنك لا تختار، اجتهد في الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استعن بالله ولا تعجز ).
وقال: ( احرص على ما ينفعك ) أي: اجتهد في أي شيء ينفعك، لكن إذا أصابك شيء فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، واعلم أن الخيرة فيما اختار الله عز وجل، فرب وظيفة كانت موبقة لصاحبها في الدنيا والآخرة، ورب زوجة كانت شراً وأضر على زوجها من ألد أعدائه، ورب ولد يطمع أن يناله أو يرزقه؛ فيكون عدواً له في هذه الدنيا؛ حتى يصبح أعظم أمنية عنده: أن هذا الولد يموت والعياذ بالله، فهذه الدنيا قد تكون عذاباً لأهلها، (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[التوبة:55]، فيعذبهم بأمنيتهم التي كدحوا من أجلها واجتهدوا وتعبوا فيها.
إذاً: فما دام الأمر كذلك فلتحمد الله تعالى على كل حال، وأن تسلم لقدر الله، وترضى به، فهذه هي حقيقة الرضا، ولا ينافي ذلك الدعاء، بل ندعو الله تبارك وتعالى في كل أمر، وندعوه في كل شأن، ولكن نعلم أن فيما يختاره الله لنا الخير، كما قال بعض السلف: [ لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع ]، فأي شيء يقع بك فأنت تقول: هذا لا أطيقه، ولا أرضاه، ولا أتحمله، ولو اطلعت على الغيب لقلت: أفضل شيء هو هذا، وأنا أريد هذا لا أريد غيره، ولكن هذا الضجر بسبب ضيق نظر الناس، وهذا ليس خاصاً بالناس البعيدين عن الله، بل إن كل البشر يعرض لهم هذا.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء- شق عليهم ما حصل مشقة عظيمة، فكانوا يقولون: ( كيف يا رسول الله؟! ألسنا المؤمنين؟ وأليسوا المشركين؟ كيف نعطي الدنية في ديننا؟ ) ألم تعدنا أن ندخل البيت، وأن نطوف؟ ووجدوا ذلك أمراً شاقاً عليهم؛ خاصة لما رأوا إخوانهم المؤمنين كـأبي جندل ومن معه يسلمون للمشركين؛ تنفيذاً لبنود الاتفاق، لكن بعد ذلك كانت العاقبة لهم، وكان ذلك هو الخير، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ))[الفتح:1]، فكان الفتح المبين هو ما كان في يوم الحديبية ، وعادوا وهم عشرة أضعافهم بعد ذلك ودخلوا مكة ، ولما خرجوا من مكة إلى هوازن كانوا عشرة أضعاف عام الحديبية.
إذاً: فلو كان الأمر كما نختار نحن فإننا نخطئ حتى في ديننا، ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع، فما اختاره الله تعالى هو الخير، وهو الأفضل لنا.
فلذلك على العبد -سواء كان في أمر دينه أو في أمر دنياه- أن يكثر من دعاء الله، ولا يمل من الدعاء، وأن يرضى بالقضاء، ثم بعد هذا إذا حصل له ما يكره فلا يقنط من رحمة الله، ولا يجزع مما أصابه، وليعلم أن هذا أصابه هو الخير له، وأن الله تبارك وتعالى اختار له ما هو خير مما لو اختار هو لنفسه.
وفي الأخير نقول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يستجيب دعاء العبد ما لم يعجل، قالوا: وكيف يعجل يا رسول الله؟! قال: يقول: دعوت الله فلم يستجب لي، فيتوقف عن دعائه)، فالاستعجال في الدعاء من أسباب عدم قبول الدعاء؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد منا دوام العبودية، ومن دوام العبودية دوام الدعاء، فلا ينبغي لعبد أن يعجل في الدعاء، بل يتريث ويستمر في الدعاء، والله تبارك وتعالى سوف يستجيب له ولو بعد حين، وربما يعوضه في الآخرة، وربما يعوضه شيئاً غير ذلك في الدنيا، وربما يعطيه ما طلب أو ما سأل في هذه الدنيا، فالمهم ألا يعجل، فهذا من أهم شروط الدعاء، وكل منا يتمنى ويرجو دائماً أن يجاب دعاؤه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.