فعندما كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما صبياً صغيراً؛ كان يتيماً، فدفعت به أمه إلى بقال يعمل عنده في المحل، فكان يهرب من المحل ويذهب إلى أبي حنيفة يطلب الفقه، فشكا ذلك البقال أبا يوسف إلى أمه فكانت الأم ترد الطفل إلى المحل، وهو يذهب إلى طلب العلم، فقال لها الرجل البقال: إنما أفسده أبو حنيفة ، فذهبت الأم إلى أبي حنيفة وقالت له: يا أبا حنيفة ! إن هذا طفلي وليس لي غيره، ولا آكل أنا وعيالي إلا من كده، فدعه يعمل في المحل، فضحك أبو حنيفة وقال لها: يا أمة الله! إن ابنك هذا لو تركتيه يطلب العلم لجاء يوم وهو يأكل اللوز بدهن الفستق، وهذا الشيء لا يأكله إلا ملوك العجم في تلك الأيام، وبعد مرور الأيام أصبح أبو يوسف كبير القضاة في الدولة كلها، فكان جالساً مع هارون الرشيد ، فأتي بأكل فأعجبه، فقال: ما هذا؟ قال: هذا لوز بدهن الفستق، فبكى أبو يوسف ، فقال هارون : ما يبكيك؟ فذكر له ما قاله أبو حنيفة لأمه وهو صغير.
فلو نظرنا إلى الأمد القريب لكان قول أمه خيراً له ولهم، لكن الله تبارك وتعالى يريد أن يكون له شأن، ويريد أن يجعل له ما هو خير وأفضل من ذلك.
إذاً لو أن الله تعالى وكل أمورنا وتدبيرنا إلى أنفسنا لكانت حياتنا عجيبة جداً؛ لأن ابن آدم نظره محدود، وتفكيره محدود حتى مع نفسه، ولو فكر كثير من الناس لوجد أن خيرة الله له أفضل من اختياره لنفسه.