قال: (وكان حيوة بن شريح ضيق العيش جداً) وهذه هي حالة السلف على ما فيهم من عبادة، ومن إجابة دعاء، وكان من الواضح جداً في حياتهم الفقر، وضيق وشظف العيش، حتى إن الواحد منهم لا يجد ما يأكل، ولا يجد ما يطعم أهله، ولا يجد ما يقري به ضيفه، ومع ذلك صبروا على الدنيا، وتحملوا هذا، وأما نحن في هذا الزمان فقد أتخمنا من الشبع والترف والنعمة، والحمد لله، ولو انقطع شيء عنا لكان القنوط والجزع منا، نسأل الله العفو والعافية.
فإذا تتبعت حياة العلماء وقرأت سيرهم فإنك تجد من أجلى الأمور في حياتهم الفقر والحاجة، وليس حاجتهم أن تكون عندهم الملايين، أو البحث عن الترف كما مر معنا، وإنما كانوا محتاجين إلى أن يأكلوا في ذلك اليوم فقط، ويريدون ماء يشربونه في ذلك اليوم، فكانوا يعانون من الفقر، ويعانون من الجوع.
وخير خلق الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الإمام والقدوة في هذا، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يعصب الحجر على بطنه من الجوع، وحدث في أيامه ما يطول ذكره من الجوع، وفي زمن الصحابة؛ ومع ذلك كانوا صابرين محتسبين الأجر في هذا، ولا عجب أن يكون هذا في أول الإسلام، فإن الجوع كان عاماً، والحاجة كانت عامة، لكن منذ أن فتح الله تبارك وتعالى الفتوح في أواخر أيام أبي بكر ، ثم في أيام عمر ، ثم اشتد ذلك في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه فما بعده؛ أغنى الله تعالى هذه الأمة، حتى بلغ دخل الفرد فيها أعلى دخل يمكن أن يكون في العالم؛ من الفتوحات التي فتحها الله تعالى عليهم.
وفي أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كان عماله يطوفون بالصدقة فلا يجدون من يأخذها، فكانت الأمة في حالة ترف، وفي حالة شبع، ومع ذلك كان كثير من العلماء والعباد من السلف في حالة فقر، من التابعين وتابعيهم؛ حكمة من الله تبارك وتعالى وإعراضاً منهم عن الدنيا، ولم يكونوا يسألون الدنيا أو يحرصون على طلبها.
وكان منهم: حيوة بن شريح رضي الله عنه، (فقيل له: لو دعوت الله أن يوسع عليك) في الدنيا، فهم يرون أنه مجاب الدعوة، فأراد أن يريهم أنه صابر رضي الله تعالى عنه؛ (فأخذ حصاة من الأرض فقال: [ اللهم اجعلها ذهباً، فانقلبت في يده تبراً -أي: ذهباً نقياً-، وقال: ما خير في الدنيا إلا الآخرة ]، ثم قال: [ هو أعلم بما يصلح عباده ] )، أي: أن هذه الدنيا لا خير فيها إلا ما قرب إلى الآخرة، فلو كنت أريد المال والذهب لسألت الله فأعطاني وأغناني، ولكنه يريد أن يقول لهم: أنا صابر ومحتسب، فإن قليل الدنيا خير من كثيرها في نظري، فهذا الذي يصلحني، والله أعلم بما يصلح عباده، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ))[الشورى:27]، وقد كان كثير من الناس في خير وفي صلاح، فلما فتحت لهم الدنيا بغوا في الأرض وطغوا، واستخدموا المال فيما يقربهم من النار، ويباعدهم من الجنة والعياذ بالله، فمثل هؤلاء لا يصلح لهم إلا الفقر، ولو أراد الله تعالى بهم خيراً لظلوا فقراء، ولبقوا على فقرهم وحاجتهم، كما أن من عباد الله من لا يصلحه إلا الغنى، ولذلك يعطيهم الله عز وجل، ولو افتقروا لقنطوا أو ضجروا.