محبة الله والخضوع والذل له
يقول الحافظ ابن رجب: (وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاص، فإن معنى لا إله إلا الله: لا يؤلِّه غيره حباً ورجاء وخوفاً وطاعة) أي: كما شرحها وفسرها الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله، فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله.وهذا كلام عظيم، وقد عرضنا له في موضوع المحبة، وقلنا: إن الإله من التأله، أو من الوله، وهو: أعلى درجات المحبة، وكذلك التعبد، فالعبودية أعلى درجات المحبة، فهي ذل وخضوع مع محبة، فالمحبة إذا تجردت عن الذل والخضوع -كما لو كان ذلك بالإكراه- فليست عبادة، ففرعون مثلاً أخضع المؤمنين في عصره كامرأته وغيرها وأكرههم وأذلهم، وكذلك كفار قريش كانوا يخضعون بلالاً وعماراً إلى أشد الدرجات، فهذا لا يضر إذا كان هو في نفسه يحب الله ورسوله، فمن أكره وأرغم بشيء فإنه لا يقال: إنه عبْد له، لكن من أحبه وتعلق به حتى أذل نفسه وأخضعها له قيل عنه: فلان يعبد فلاناً، أو يعبد فلانة، أو يعبد الوظيفة، ( تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار )، فهو مستعد لأن يخضع نفسه ويذلها من أجل الدرهم، أو الدينار، أو الوظيفة، أو فلان، أو فلانة، فهنا يقال تيم الله، ومعناها: عبد الله من التتيم وهو المحبة، وهذا معنى جيد، فالكلام كله في محبة الله، وليس المراد أن الإنسان يمتثل بجوارحه بعض العبادات وقلبه غير محب لله، ولا محب لطاعة الله عز وجل.فيقول: (وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله تعالى وخشيته، وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب، فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات، وارتكاب بعض المحظورات، فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقى له هم إلا في الله، وفيما يرضيه به، وقد ورد في الحديث مرفوعاً ( من أصبح وهمه غير الله فليس من الله )، قال بعض العارفين: من أخبرك أن وليه له هَمّ في غيره فلا تصدقه، فإن كان من أولياء الله فإن كل همه يكون هو الله، وما يرضي الله عز وجل.وكان داود الطائي ينادي في الليل: همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب، وفي هذا المعنى قال بعضهم: قالوا تشاغل عنا واصطفى بدلاً منا وذلك فعل الخائن السالي وكيف أشغل قلبي عن محبتكم بغير ذكركم يا كل أشغالي )