إذاً: يجب أن تقدم محبة الله تعالى على كل محبة، وتقدم مراده على كل مراد، فمن أمرك بأمر فيه معصية لله عز وجل فلا تطعه كائناً من كان، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.يقول: (وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
ليس للناس موضع في فؤادي زاد فيه هواك حتى ملاه وقال آخر:
قد صيغ قلبي على مقدار حبهم فما لحب سواهم فيه متسع )يقول: (وإلى هذه المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم
المدينة فقال: (
أحبوا الله من كل قلوبكم )، كما ذكر ذلك
ابن إسحاق في
سيرته).والمقصود من هذه كلها: أن القلب لا يكون فيه شيء لغير الله، كما قال
سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: [
أن تكون حركاته وسكناته لله عز وجل، لا يخالطه شيء، ولا يمازحه شيء ].إذا: فهذا هو معنى: (
كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )، فتصبح أعماله كلها لله، فإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، وإن أحب أحب لله إن أبغض أبغض لله، وإن نطق وتكلم فبذكر الله، وما والاه، وفي سبيل، وحتى إن نام: [
إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي]، فيجعل حياته كلها لله، فهذه هي درجة المقربين أولياء الله تعالى.قال رحمه الله: (فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محى ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، فهذا هو المراد بقوله: (
كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) ) ولذلك: جاء في بعض الروايات -كما ذكر
شيخ الإسلام رحمه الله-: (
فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش ) هو غير الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً-، وهو يسمع ويبصر؛ لكن بالله، ويبطش بالله، فيعمل لله، فالجوارح لا تتحرك إلا لله، وفي الله.قال: (ومن أشار إلى غير ذلك فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والإتحاد، والله ورسوله بريئان منه).يريد الحافظ
ابن رجب رحمه الله أن يحذرنا ممن يقولون: إن قوله: (
كنت سمعه وبصره ) هو بمعنى الحلول، أي: -أن الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- يحل في المخلوقين؛ كما يدعي ذلك
النصارى في المسيح، فيقولون: إن الله تعالى حل في المسيح عليه السلام، أو كما يدعي عباد
الهند في الحلول والإتحاد لكل عابد من عبادهم، فيتعبد ويجتهد في تعذيب النفس حتى تتحد في
براهما الإله عندهم كما يزعمون، تعالى الله عن ذلك، فهذا حلول واتحاد. وبين القولين -قول
أهل السنة وفهمهم الذي أوضحناه، وبين الحلول والاتحاد- أقوال في تفسير هذا الكلام، وقد ذكرها الحافظ
ابن حجر رحمه الله، وسنأتي عليها إن شاء الله، ويمكن أن نقدمها قبل أن نبين لوازم ومتعلقات ذلك.