الخامس: حديث
أنس رضي الله تعالى عنه، وقد خرجه
الطبراني وغيره من طريق
الحسن بن يحيى الخشني ، عن
صدقة بن عبد الله الدمشقي ، عن
هشام الكناني ، عن
أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن ربه تعالى: قال: (
من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت قبض نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه )، فانتقل من أول الحديث إلى آخره. وفيه زيادة: (
وإن في عبادي المؤمنين من يريد باباً من العبادة فأكفه عنه؛ ألا يدخله عجب فيفسده ذلك ) فالإنسان إذا أعجب بعمله، وظن أنه قد اجتهد، وعبد الله تعالى كما ينبغي، وأعجبه ذلك العمل؛ لا يؤمن عليه أن يوكل إلى عمله، فلا ينفعه ذلك شيئاً عند الله، فينبغي على المؤمن دائماً أن يعتمد وأن يتوكل على الله، وأن يحسن الظن بالله لا في عمله، ولا في نفسه؛ مهما بلغت عبادته وعمله واجتهاده وجهاده، فلا يأخذه العجب فإذا أخذه العجب، بعمله، واغتر بذلك؛ فإنه يهلك والعياذ بالله تعالى.وهذا من لطف الله تعالى بأوليائه أن يسد باباً من أبواب العبادة عمن يريدها من عبادة؛ حتى لا يأخذه العجب.قال: ( (
وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتنفل حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً، وبصراً، ويداً، ومؤيداً، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك ) )، فالفقر قد يفسده كما أن الغنى قد يطغيه أيضاً، فكل منهما قد يكون شراً على من لم يوفقه الله تبارك وتعالى، فيحول الله تبارك وتعالى بين بعض عباده الذين يريدون أن يكونوا أولياء له؛ يحول بينهم وبين الفقر، أو يحول بينهم وبين الغنى؛ لمعرفته وعلمه عز وجل بأنهم لا يصلحون إلا بهذا، بخلاف غيرهم مما لا يحبه الله عز وجل؛ فإنه يبتليهم بفقر منسٍ، أو بغنىً مطغٍ نعوذ بالله منهما.قال: (
دعاني فأجبته، وسألني فأعطيته، ونصح لي فنصحته، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت له لأفسده ذلك )، يعني في معاشه ودنياه، (
وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم -أي: المرض- ولو أصححته لأفسده ذلك )، فبعض الناس لولا المرض لبغى، وطغى، وبطش، وتجبر، وأفسد في الأرض، فالله تبارك وتعالى أرحم به، وأعلم بصلاحه، فيختار له المرض فيمرض، فيعجز عن فعل المعاصي، بل ويذكر الله تبارك وتعالى، بل ويحتسب ذلك عند الله، فيؤجره الله بهذه الأحوال، وهو يظن أن هذا البلاء شر، وهو خير له عند الله؛ لأنه أعلم بما يصلح حاله، وهذا مدلوله ومؤاده: أن الواحد يصبر على أي حال اختارها الله تبارك وتعالى له، فإن اختار له الغنى حمد الله، وإن اختار له الفقر حمد الله، وإن اختار له الصحة حمد الله، فهو تبارك وتعالى أعلم بما يصلح كل إنسان، فعلى المرء أن يكل الأمر ويفوضه إلى الله عز وجل، فبهذا يكون عبداً مؤمناً حقاً.وليعلم أن اختيار الله تبارك وتعالى له خير من اختياره لنفسه، ولا يدري المؤمن أين الخير في أي شيء، بل كما قال الله تعالى: ((
فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ))[النساء:19].قال: (
إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير )، قال: سنده أيضاً ضعيف؛ لأن
الخشني و
صدقة ضعيفان، و
هشام لا يعرف، وقد سئل
ابن معين عن
هشام هذا: من هو؟ فقال: لا أحد. يعني: لا يعتبر به.وقد خرج
البزار بعض الحديث من طريق
صدقة بن عبد الكريم الجزري ، عن
أنس . وخرج
الطبراني من حديث
الأوزاعي ، عن
عبدة بن أبي لبابة ، عن
زر بن حبيش سمعت
حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
إن الله تعالى أوحي إليَّ: يا أخا المرسلين! يا أخا المنذِرين! أنذر قومك لا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائماً بين يدي حتى يرد تلك الظلامة على أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة ).قال: وهذا إسناد جيد، وهو غريب جداً.وبقي حديث
معاذ ، فالمرفوعات على هذا تكون سبعاً، وقد ذكر رواية
معاذ ضمن الشرح، وذكر أيضاً ضمن الشرح رواية موقوفة على
وهب بن منبه ، وأما الحافظ
ابن حجر رحمه الله فقد ذكر هذه الطرق -كما قلت- مجملة. ثم بدأ الحافظ
ابن رجب في الشرح فقال: (ولنرجع إلى شرح حديث
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي خرجه
البخاري، وقد قيل: إنه أشرف حديث في ذكر الأولياء) ولا شك أن هذا أشرف حديث في ذكر الأولياء، وأن من نعم الله تبارك وتعالى -كما قلنا- أن الإمام
البخاري يذكر هذا الحديث في
صحيحه رضي الله تعالى عنه ورحمه. قال: (قول الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: فقد أعلمته بأني محارب له؛ حيث كان محارباً لي بمعاداته أوليائي)، فيكون هنا بمعنى الإعلام والإنذار، (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وأما التنفيذ فشيء آخر؛ لكن الحرب قائمة، كما أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان بينه وبين قوم صلح، فقال: ((
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ))[الأنفال:58]، فإذا قلنا للمشركين: لقد انتهى الصلح بيننا فلا هدنة، والحرب بيننا محتملة، فتوقعوا منا الهجوم في أي وقت. إذاً: فالإنذار قائم، فمن عادى أولياء الله فقد أنذره الله، فليتوقع الحرب، وليعلم أن معاداته لأولياء الله هي سبب مباشر في إنذار الله تبارك وتعالى له بالحرب؛ فهو عدو لله، ويمكن أن يأخذه في أي وقت كما يشاء، وبما يشاء تبارك وتعالى؛ حيث كان محارباً لي بمعاداته أوليائي؛ ولهذا جاء في حديث
عائشة رضي الله عنها: (فقد استحل محاربتي) يعني: استحقها، فهي حلال وحق: أن أحاربه؛ إذ أنه حارب أوليائي، فهو سبحانه يثأر لأوليائه، كما جاء في رواية الإمام
أحمد تشبيه عظيم، فيقول: (
إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب ) أي: الأسد الفاتك الغضوب الحمق الذي ينقض على فريسته انقضاضاً شديداً. وهو سبحانه وتعالى يملي للظالمين ويمهلهم: (
إن الله تعالى ليملي للظالم؛ حتى إذا أخذه لم يفلته )، ((
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ))[هود:102]، وأكبر عبرة في ذلك فرعون، فكم آيات أظهرها الله له: من الجراد، والقمل، والدم، والضفادع، وهي عبر عظيمة أجراها الله على يد موسى عليه السلام، ورأى ما رأى، ولكنه أبى وعتى، وفي النهاية أخذه الله تبارك وتعالى أخذ عزيز مقتدر، فكانت نهايته تلك النهاية الشنيعة التي دمرته، واجتاحه الماء، فأغرقه الله عز وجل وجنده أجمعين.إذاً: فمهما أملى الله تبارك وتعالى للظالم؛ فإن الحرب معلنة قائمة، وإن أخذه أليم شديد.قال: (وفي حديث
أبي أمامة وغيره: (
فقد بارزني بالمحاربة ) )، و
من يغالب الله يغلب، ومن يبارز الله عز وجل يقصم. وخرج
ابن ماجه بسند ضعيف عن
معاذ بن جبل رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (
إن يسير الرياء شرك، وإن من عادى لله ولياً فقد بارز الله بالمحاربة، وإن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء )، فلا يحاول أي إنسان أن يحرض على الظهور؛ لأن الظهور فتنة قد لا يصبر عليها، وقد يبتلى -والعياذ بالله- فينتكس، فلا يحرص مؤمن على الظهور، وإنما يحرص على أن يكون تقياً خفياً ما أمكنه ذلك.