يقول: فـ الطاعات من شعب الإيمان -كما في حديث الشعب- والمعاصي من شعب الكفر، وإن شئت فقل: فالإيمان شعب، أولى من قولنا: الطاعات من شعب الإيمان؛ لأن موافقة النص النبوي في اللفظ والمعنى أولى: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة.. )، وكذلك الكفر يكون شعباً، ومن شعبه المعاصي، ونحن نقول هذا احترازاً من أن يفهم أحد أن الإيمان شيء، وشعب الإيمان شي آخر، إذ إن ذلك مذهب المرجئة ، فهم يتخيلون أن الإيمان شيء، وشعب الإيمان شيء آخر، وأن الإسلام شيء، وشرائع الإسلام شيء آخر، فيقولون مثلاً في حديث جبريل عندما سأله عن الإسلام؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، أنه إنما سأله عن شرائعه وعن حقيقة الإسلام، فلذلك يجعلون الإيمان والإسلام في المعنى شيئاً واحداً، فيجعلون هذه الأركان شرائع، ونحن ننبه إلى هذا لأن العبارات والألفاظ الشرعية دائماً هي الأصح والأقوم، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الالتزام بها ما استطعنا، فنقول: إن الطاعات هي شعب الإيمان، وكذلك المعاصي هي شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، أي: أن الكفر ليس شيئاً واحداً كما يرى المرجئة ، إذ إنه عندهم هو الجحود فقط، فإذا ارتكب أحد الكفر قالوا: هل هو جاحد؟ هل هو مستحل أو غير مستحل؟ مع أن هذا ليس مذهب أهل السنة والجماعة ؛ لأن الكفر عند أهل السنة والجماعة كما هو في القرآن وفي السنة أنواع: كفر الإباء، والاستكبار، والإعراض، والشك والريب، والجحود، والإنكار، والاستهزاء، وقد يكون الكفر عملياً يدخل تحته صور كثيرة منها: كفر الظن.
وعليه فـ لا يشترط أن يكون الكافر جاحداً، بل قد يكون مقراً لكنه مستهزئ أو معرض أو مستحل، وكل هذا ممكن، وأعظم أنواع الكفر في الدنيا هو كفر إبليس، ولم يكن كفر إبليس من نوع الجحود؛ فإنه لم يجحد أمراً أمره الله به، وإنما كما ذكر الله تعالى أبى واستكبر واعترض على الأمر وعاند بقوله: (( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12]، وقوله: (( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ))[الإسراء:61].
وبالتالي فالاعتراض على حكم الله، وإن كان المعترض مقراً بأن هذا هو حكم الله، أو أمر الله، هو نوع من أنواع الكفر والعياذ بالله، وكذلك الاستهزاء بدين الله، فقد يأتيك شخص ما أنكر أو جحد أن القرآن كلام الله، لكنه يستهزئ به، فإن ذلك كفر، ولا نقول: هل أنت مقر أو غير مقر؟! إذ إن الاستهزاء كفر برأسه، ولنا أن نسأله: هل أنت عامد أو غير عامد؟ جاهل أو غير جاهل؟ وعليه فهو ما كفر كفر جحود وإنما كفر كفر استهزاء، وهذا باب آخر، ولو جعلنا الكفر كله محصوراً في الجحود لخالفنا عقيدة أهل السنة والجماعة في أن الكفر أنواع، مع أن الجحود أو التكذيب هو الأصل، ولا بأس بأن يقال ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى نسب إلى الأمم جميعاً تكذيبهم لرسلهم، لقوم نوح وعاد ولوط، وليست بالضرورة أن يكون مقابلها التصديق، لكن في الواقع هناك تلازم بين التكذيب والاستهزاء أو الإعراض أو الرد؛ لأن من رد فهو مكذب، لكن ليس شرطاً أن نفسر ذلك بالتكذيب المعروف المصطلح عليه الذي يعبر عنه أحياناً بالجحود، وإنما التكذيب في الحقيقة أعم من ذلك، فإن كل من أنكره أو أباه أو أعرض عنه فهو في الحقيقة مكذب، والكفر ملة واحدة، أي: أن أهل الكفر على دين واحد، ولا يعني هذا أن الكفر ليس أنواعاً، لكن هو كفر كله، فلا نفرق بين من كفر استهزاء أو كفر جحوداً، إذ إن كلهم كفار عند أهل السنة والجماعة ، وكذلك إذا كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو بوذياً أو هندوسياً فكلهم كفار، وهذا في التعامل له تفصيل.
فبعض العلماء يرى أن الكفر ملة واحدة، ومعنى ذلك أنه لا فرق بين أهل الكتاب وغيرهم، وبعض العلماء يفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من أحكام أهل الذمة والجزية، والإقرار على الدين، ونحو ذلك -أمور تفصيلية- من أحكام الفروع، لكن الأصل العقدي أن الكفر ملة واحدة، وأنهم كلهم كفار.
قال: ورأس شعب الإيمان التصديق، وذلك كما قلنا في الكفر: أنه لا يمكن أن يكون أحد مؤمناً أو مسلماً إلا بأن يصدق، والعمل أو أنواع الإيمان الأخرى -شعب الإيمان- أو فروع الإيمان الأخرى هي تبع لهذا التصديق، ولهذا سواء على الإنسان الذي يدخل في الإسلام كما نجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: أسلمت أو صدقت أو أقررت أو اتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم أو دخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك، فهي من الألفاظ الشرعية المترادفة بهذا المعنى، وليس بالمعنى الاصطلاحي الدقيق.