ولكن ما سلم لهم هذا القول، وما اطرد لهم، بل اختلفوا فيما بعد حين وقعوا بين قول أهل السنة والجماعة من جهة، وبين قول الخوارج وإلزامهم لهم من جهة، فاضطربوا.
ذلك أنا إذا قلنا: إن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان فكأن عمل القلب لا يدخل في الإيمان، فنقول لهم: عندما تقولون: هو اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان، هل يدخل في ذلك عمل القلب؟!
وأهل السنة والجماعة دائماً أذكى الناس وأمهر الناس وأعقل الناس وأفهم الناس، ولا شك في ذلك، لكن قد تبتلى الأمة بوجود من يدافع عن السنة وهو ضعيف، فيُظن أن أهل السنة مخطئون أو مقصرون، والتقصير إنما هو من بعض من ينتسبون إلى السنة، ومع وضوح الحق وظهور الحجة يندحر الباطل، فإذا ضعف أهل السنة قوي أهل الباطل، وإلا فالسنة في ذاتها واضحة، والحق في ذاته واضح جلي.
فإن قالوا: نحن ندخل كل أعمال القلب في الإيمان؛ فاليقين والإخلاص والتوكل والصبر والإنابة والخشوع والمحبة كلها من الإيمان، والذي نخرجه فقط هو عمل الجوارح؛ قلنا: وهل يعقل أن أحداً يكون لديه اليقين والإيمان والإخلاص والصدق والمحبة والإذعان والانقياد والخشوع ولا يعمل بجوارحه؟! فالتلازم بينهما قوي جداً، فإن قالوا نعم.. أقروا قالوا: يدخل العمل في الإيمان، والتلازم بينهما قوي، ولابد من أن يعمل؛ قلنا: فلم لا تدخلونه؟! فهذا عمل أخرجتم جزءه الظاهر من الإيمان، وأدخلتم جزءه الباطن، فالصلاة تجعلون خشوعها ويقينها وإخلاصها من الإيمان، وتجعلون الحركات من الركوع والسجود خارج الإيمان، فلماذا فرقتم بين ذلك وهي صلاة واحدة؟!
فيصبح الأمر على هذا الاعتبار كأنه مجرد خلاف لفظي، فحين يقول قائلهم: العمل ليس من الإيمان، لكنه من لوازمه المؤكدة الثابتة، يقال له: قل: هو منه، أي: لا تقل: هذا البناء الظاهر هو من لوازم الأساس الذي يرتبط به ارتباطاً وثيقاً قوياً، بل قل: البناء هو جزء ظاهر، والأساس جزء باطن، وبذلك تكون قد اتبعت السلف وما أخطأت وما تعبت وما أولت.
وإن قالوا: لا ندخل أعمال القلوب في الإيمان يقال لهم: يلزم من ذلك أن نصبح كـالخوارج ، فكما أنه إذا ترك عملاً ظاهراً يكفر، فكذلك لو ترك عملاً باطناً -كالحياء أو الخشوع- فإنه يكفر فإن قالوا: نحن لا نجعل الإيمان إلا عملاً واحداً من أعمال القلب فقط، وهو الإقرار أو التصديق، ولا نجعله مع ذلك إلا قول اللسان؛ قيل لهم: إذاً أصبحتم -في الحقيقة- مرجئة غلاة، فما بقي بينكم وبين الجهمية والصالحية أتباع الصالحي والأشعرية فرق إلا أنكم تقولون: إن الإقرار باللسان ركن مع ركن التصديق، وهم يجعلونه ركناً واحداً.
ثم إن الماهية لا تتجزأ ولا تتركب ولا تتبعض، ومرجئة الحنفية جزءوا الإيمان، فجعلوا جزءاً منه اعتقاد القلب، وجزءاً منه الإقرار باللسان، فأصبح جزءين.
فقال لهم المتكلمون و الأشعرية و الجهمية : أنتم جعلتموه جزأين، فيلزمكم أن تكونوا كـالخوارج ، فإما أن تقولوا: كل الأعمال من الإيمان، وإما أن تجعلوه عملاً واحداً، فاختاروا القول بأن الإيمان هو التصديق فقط، أو الاعتقاد والإقرار القلبي.