قال: (وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول لأصحابه: [ هلموا نزدد إيماناً ] فيذكرون الله عز وجل)، وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة رضي الله تعالى عنه وفيه: قال ذر بن عبد الرحمن المرهبي : [ كان عمر : ربما يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: قم بنا نزدد إيماناً ]، هذا هو عمر رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهو الذي قال عنه علي رضي الله تعالى عنه -مع أن علياً مبشر بالجنة رضي الله تعالى عنهم أجمعين- قال: [ ما وددت أني ألقى الله تبارك وتعالى بعمل رجل إلا هذا الرجل ]، فكان يتمنى رضي الله تعالى عنه أن يلقى الله بعمل عمر ، ( وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر لابساً ثوباً سابغاً، فقيل له: ما أولته؟ قال: الدين ).
فـعمر رضي الله عنه في الدين وفي الإيمان هو في الدرجة العليا، ومع ذلك فإنه يتعاهد إيمانه، فيمر على الرجل والرجلين فيقول: [ هلموا -أي: تعالوا وأقبلوا- نزدد إيماناً ]، فيذكرون الله عز وجل، فذكر الله تبارك وتعالى يزداد به العبد إيماناً، فيقرأ شيئاً من كتاب الله، ويتذكر أو يتفكر في الآخرة، وفي مصارع الأمم الغابرة، ويتذكر أحوال الموتى، ومن سبقونا إلى تلك الدار، ويتذكر نعم الله تبارك وتعالى عليه، وكيف أسبغها علينا ظاهرةً وباطنة، ثم كيف نقابل ذلك بالغفلة إن لم يكن بالجحود والعياذ بالله؟! ويتفكر في كل ما يحيط به، (( فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ))[عبس:24]، هذا الذي يأكله كثير من الناس كما تأكل البهائم، ولا يتفكرون كيف سخره الله تبارك وتعالى، وكيف دبره، وكيف جعل لك من يزرعه، ومن يحصده، ومن يعجنه، ومن يخبزه، ومن ينضجه، وأنت تأكله هنيئاً مريئاً، وتفكر في نفسك، (( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ))[الذاريات:21]، فيتأمل كيف كان نطفة، وكيف كان أكبر مجرمي العالم في التاريخ: من فرعون، إلى مجرمي هذا العصر، إلى ما قبله؛ كل هؤلاء الفراعنة العتاة المتكبرون المتجبرون كانوا نطفة، والآن يقولون في العلم الحديث: أن الإنسان لا يخلق من النطفة كلها، فهذه النطفة مكونة من ملايين من الحيوانات المنوية، والمخلوق يكون من واحد منها، فهذا أيضاً فيه زيادة عبرة، فهذا المخلوق لم يخلق من كلها، وإنما من نطفة حقيرة جداً، وبعد ذلك يتكبر على الله، ويصبح جباراً في الأرض: يفسد، ويقتل، ويقطع الطريق، وينهب الأموال، ويدمر البلاد والعباد، ويفعل كل ما من شأنه أن يغضب الله عز وجل، وهو من هذا الأصل الحقير، ثم بعد ذلك يميته الله عز وجل، فيحشرون يوم القيامة كأمثال الذر، وهكذا فمجالات العبر كثيرة.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم من كمال فقههم الذي لم يسبقهم إليه أحد، ولم يناله بعدهم أحد إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ كانوا من كمال فقههم يتعاهدون إيمانهم كل منهم بأسلوبه، وكل منهم بطريقته، وإن لم ينطق بعضهم بذلك نطقاً فلا شك أن حالهم دائماً هو ذلك، وهذا هو شأنهم، فكانوا إذا رءوا ذكر الله.
وقد نقل نصارى الشام وغيرها من البلاد؛ الذين كانوا يقرءون سيرة المسيح، وسيرة الحواريين، وكانوا يتعجبون أنه لا يوجد في الدنيا نظير لهؤلاء، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء؛ فقد رأوا سيراً عجيبة جداً تنطق بنفسها: أن هذه التربية التي رباهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من عند الله، وإلا كيف بلغت بهم هذه التزكية، والخلق الرفيع، والتواضع، والخشية، والخشوع والوجل من الله عز وجل، وهذا الحكمة التي تتفجر على ألسنتهم، وينطقون بها ليل نهار؛ وهم الجفاة فيما قبل؛ كيف بلغت بهم هذا المبلغ؟! فقد كانوا أعراباً قطاع طريق، وكان الواحد منهم يئد ابنته، ويرتكب أفظع المحرمات، ويتزوج امرأة أبيه، ويسفك الدم، إنها نقلة هائلة، فهؤلاء أنفسهم أصبحوا كالملائكة يمشون على الأرض مطمئنين، فقالوا: والله ما الذي صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.