يقول: "كما قال عن المنافقين: ((
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)[التوبة:49] وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في
الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم".
في غزوة
تبوك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين كافة أن يتجهزوا، فخرجوا ولم يتخلف إلا المنافقون أو من أعذرهم الله، إلا الثلاثة الذين خلفوا، وليس معنى خلفوا: تخلفوا عن المعركة ولم يذهبوا إليها، وإن كان الكلام في التخلف، وإنما معناه: أُخِّروا وأُجِّلوا، لأن المنافقين كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث
كعب بن مالك الطويل- فيحلفون له، فيصدقهم ويعفو عنهم، ويكلهم إلى الله، أما أولئك فقد خلفوا، أي: أُنظِروا وأرجئ أمرهم حتى أنزل الله توبتهم بعد خمسين ليلة.
وقد قال
ابن عباس رضي الله عنه في هذه السورة: إنها الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين حتى أتت على جل صفاتهم وأحوالهم. قال تعالى: ((
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي))[التوبة:49] هذا فقه المنافقين، وقد ذكره الله تعالى في القرآن حتى نعتبر.
يقول شيخ الإسلام: "وأظنه قال: {
هل لك في نساء بني الأصفر، فقال -أي: الجد بن قيس -: يا رسول الله! إني رجل لا أصبر عن النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فائذن لي ولا تفتني} أي: أنه مستعد للجهاد، وقادر عليه، لكن عذره أنه إذا رأى بنات الروم؛ لم يصبر عنهن فيخشى أن يقع في الفتنة، فكأنه لا يريد إلا بقاء هذا الإيمان، وبقاء القرب من الله سبحانه وتعالى بأن لا يقع في شهوة النساء التي قد تؤثر وتضعف إيمانه ودينه.
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية عن قصة
الجد : "إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء، فلا يفتتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحذور ومجاهدة نفسه عنه، فيتعذب بذلك، أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها، فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع، وإما للعجز عنها؛ يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحذور هلك".
وهذا حال من يسمون أنفسهم بالعشاق، والذين نسمع صرخاتهم وآهاتهم وأناتهم في كل حين، ولهذا لما سئل الإمام
مالك رحمه الله عن الغناء قال: [[
ما أظن عاقلاً يصنع بنفسه هكذا]] لترنح المغنين وتمايلهم.
فيقول: إذا غلب الهوى فحصل هذا العشق لا يخلو من أمرين: إما أن يأتي الإنسان شهوته ومراده فيقع في الحرام، وإما أن يحرم منها، فيقع في الألم والعذاب.
يقول: "فهذا وجه قوله: (ولا تفتني) قال الله تعالى: ((أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا))[التوبة:49] يقول: نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه، وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها" أي أن حبه للإخلاد إلى الدنيا وترك الجهاد والتخلف بنفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة عظيمة سقط ووقع فيها.
قال: "فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟!" أي: أحاطت به وانعكس عليه الأمـر، يقول: "والله يقـول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193]، فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة؛ فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه، ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد".
ولهذا لما جاء التتار، قال بعض الناس: كيف نحاربهم وهم يقولون: (لا إله إلا الله)؟ فأفتاهم شيخ الإسلام ومن جملة ما قال: "لو رأيتموني معهم والمصحف معلق في عنقي؛ فاضربوا عنقي" يقول لهم ذلك حتى يستيقنوا أن الفتنة هي في ترك قتال أولئك، ولا يقولوا: هذا قتال فتنة بين المسلمين، فهم ليسوا مسلمين؛ لأنهم يحكمون الياسق الذي وضعه جنكيز خان، ويقولون كما يقول الغربيون اليوم: رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان، فجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وخير البرية مثل جنكيز خان، وقالوا: نحن مسلمون، نشهد أن لا إله إلا الله..!
فهؤلاء لا يقبل منهم هذا مع بقائهم على هذا الولاء لذلك المشرك، وتحكيم ما أقره وكتبه لهم، فقال شيخ الإسلام : ليس هذا من قتال الفتنة ولا من قتال البغاة، هذا من الجهاد الواجب لأولئك الخارجين على الشريعة، فلو رأيتموني معهم والمصحف معلق بعنقي، فاضربوا عنقي.
فالفتنة: هي ترك القتال عندما يكون في القتال إعلاء لكلمة الله؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))[البقرة:193] والفتنة: الشرك، كما فسرها الصحابة رضوان الله عليهم.