المادة    
يقول رحمه الله: "والناس هنا ثلاثة أقسام" أي أن الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ثلاثة أقسام:
النوع الأول: "قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه، ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات -الحلال والحرام- زال غضبه وحصل رضاه" فبعض الناس يقوم بهذا الأمر ويقوم له لحظ النفس وشهوته، فالعدل عنده ما تمكن به من أخذ ما يريد، والحلال ما حل في يده، واستطاع أن يتملكه، أما الظلم والحرام، فهو أن يحرم شيئاً وإن كان حرمه بحق وبعدل وبحكم شرعي.
قال: "وصار الأمر الذي كان عنده منكراً -ينهى عنه ويعاقب عليه ويذم صاحبه ويغضب عليه- مرضياً عنده، وصار فاعلاً له وشريكاً فيه ومعاوناً عليه، ومعادياً لمن نهى عنه وينكر عليه وهذا غالب في بني آدم؛ يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه، وسببه أن الإنسان ظلوم جهول" أي أن بعض الناس لا يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإنكار إلا لذات الشهوة وحظ النفس، فإذا حصّل ممن كان ينكر عليهم على شيء مما يريد، وحصلت شهواته من منصب أو مال أو أمر من الأمور الدنيوية؛ نسي ذلك المنكر وأصبح مقراً له، بل يصبح معاوناً لأصحاب المنكر.
وشيخ الإسلام في كلامه هذا يعرض بأهل الأهواء وبغيرهم من الظالمين في التاريخ، وهذا يقع في كل زمان ومكان، فتجد ممن ينكرون على الملوك والخلفاء أنهم أنكروا عليهم لأنهم استأثروا بالدنيا دونهم، فإذا أُشركوا فيها، وأُعطوا شيئاً من المناصب، رضوا وقالوا: هذا هو الحق والعدل؛ فهم لم ينكروا غضباً لله ولا طلباً للعدل أو المساواة بين الرعية، وإنما أنكروا غضباً للنفس وحباً لشهوة الملك أو السلطان. يقول رحمه الله: "فلذلك لا يعدل، بل ربما كان ظالماً في الحالين، يرى قوماً ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم، فيرضي أولئك المنكرين ببعض الشيء، فينقلبون أعواناً له، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي؛ حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك، أو يرضوه ببعض ذلك، فتراه قد صار عوناً لهم" أي أنه أصبح من أعوانهم بعد أن كان منكراً عليهم، قال: "وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره".
يقول رحمه الله: "وقوم يقومون ديانة صحيحة" هؤلاء هم النوع الثاني، وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بدافع الديانة الصحيحة، قال: "وقوم يقومون ديانة صحيحة، يكونون في ذلك مخلصين لله، مصلحين فيما عملوه، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم من خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله".
أما النوع الثالث فيقول: "وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين" فيهم شهوة من جهة، ومن الممكن أن يسكتوا إذا أعطوا ما يرضيهم، ومن الجانب الآخر فيهم نوع من الإنكـار والغيرة على الدين، فتتردد الأنفس بين الأمرين.
يقول: "فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية، وربما غلب هذا تارة، وهذا تارة" فإذا ذكر بالله أخذته الغيرة وأنكر، فإذا غلبت عليه الشهوة، ومال إلى ما أعطي من الدنيا، سكت.
يقول: "وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث" أي أن القسمة الثلاثية تكون بحسب الأنفس الثلاث " أمارة ومطمئنة ولوامة، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمر بالسوء" كما قال تعالى: ((وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ))[يوسف:53] فالنفس الأمارة بالسوء: هي تلك التي تتبع الهوى وتدعو صاحبها إليه.
قال: "والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي))[الفجر:27-30] والآخرون هم أهل النفوس اللوامة، التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً" أي أنهم هم الذين خلطوا واجتمع فيهم الأمران .
  1. صلاح شئون المسلمين في عهد الشيخين

    ثم شرع رحمه الله في بيان حال الأمة الإسلامية، التي ترتبط حياتها وقيامها ووجودها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف وقع فيها الخلل والانحراف في هذا الأمر يقول: "ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر -اللذين أُمر المسلمون بالاقتداء بهما؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر }- أقرب عهداً بالرسالة، وأعظم إيماناً وصلاحاً، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة، لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسم الوسط"، فلم تكن فتنة في خلافة الشيخين رضي الله عنهما، فالقضاة لا يجدون عملاً، وليس لهم ما يشغلهم؛ لأن كل أحد عرف ما له وما عليه، فالأمة قائمة بالقسط، والأئمة قائمون بالقسط، ولم يحدث من أحدهم ظلم ولا إخلال، لا الأمة ولا الأئمة، فـأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يستأثرا دون الناس بشيء من بيت المال، فلم يؤثرا أهلهما، أو ذويهما أو أقرباءهما بشيء من ذلك أبداً، بل كانا متجردين لله عز وجل، والأمة كانت طائعة لهما في طاعة الله تعالى، وكانت تعلم أنه يجب عليها أن تسمع وأن تطيع لهما، إذ أنهما قد حكما بالعدل وقد أعطيا وقسما بالسوية، فلم تقع فتنة -ولله الحمد- فقد غلب المسلمون المرتدين، وحاربوا الفرس والروم وهزموهم، فكان العدو خارجياً، أما في الداخل، فالصف واحد، والهدف واحد.
  2. بيان اختلال أمر المسلمين بعد الشيخين

    قال: "ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين" كثرت فيهم الشهوات من أموال وجوارٍ وكنوز تملكوها، وأيضاً وجدت الشبهات، فظهرت الشيعة والرافضة، وبدأت فتنة القدرية وما أشبه ذلك.
    يقول: "وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا" أي: لم يكن ذلك في الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما، ولكن في بعض ولاتهم وفي بعض رعيتهم، ويقول: "ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين واختلاطها بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين"، فانتشرت الفتن حتى وقعت المعارك بين ابن الزبير من جهة وعبد الملك بن مروان من جهة والمختار بن أبي عبيد من جهة، وكانت فتنة عظيمة بين المسلمين.
    ولهذا لما خطب عبد الملك بن مروان قال: تكلفوننا أعمال المهاجرين والأنصار ولستم مثلهم. يقول: تطلبون منا أن نحكمكم كما كان يحكم أبو بكر وعمر المهاجرين والأنصار، وأنتم لستم مثلهم.
    ولما سئل علي رضي الله عنه من قبل أحد أتباعه: لماذا استقام الأمر في عهد أبي بكر وعمر ولم يستقم لك؟ قال: {كانت رعيتهم مثلي، وأنا رعيتي مثلك}، فالفرق واضح بين رعية أبي بكر وعمر وبين رعية علي رضي الله عنهم أجمعين.
    ولذلك حصل الخلل بعد عصر الخلفاء الراشدين من الجهتين، فلا أولئك الحكام كانوا كالخلفاء الراشدين، ولا الرعية كانوا كالمهاجرين والأنصار، فكانت العقوبة وتسليط بعض الظالمين على بعض، وتولية بعضهم بعضاً.
    يقول: "وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى" أي أن كل واحد متأول، ويظن أنه يريد الحق مع أن فيه شبهة وشهوة وميلاً، وكذلك الطرف الآخر. يقول: "ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى.
    فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه، ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى،كما قال تعالى: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ))[الشورى:15]".
    ويقول رحمه الله: "وهذا أيضاً حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات" (المقالة) هنا معناها: الاعتقاد أو المذهب، ولهذا ألّف الأشعري كتاباً سماه مقالات الإسلاميين، أي: آراءهم واعتقاداتهم.
    يقول: فكما أن هذا واقع فيما يتعلق بالملك والسلطان؛ فهو واقع كذلك في المقالات والعبادات.
    يقول: "وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين، فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها؛ فإن معهم نفوساً وشياطين كما مع غيرهم، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع؛ فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير، فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره -لا سيما إن كان نظيره- يفعله ففعله" فالإنسان أحياناً يريد الخير، لكن نفسه تنازعه للشر، فإذا رأى نظيره أو قرينه على شيء، مال إلى أن يفعل مثل ما هو عليه، فإذا ظهر الهوى والشهوة، وغلبت على طائفة، كان ذلك داعياً إلى أن ينساق إليها البقية من الذين هم على الخير، والعكس صحيح أيضاً.
    يقول: "فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض" القطا: هو الطير المعروف، وهو يطير في أسراب؛ فالذي يحصل في طيران هذه الطيور أنه إذا تقدم منها واحد أو مجموعة، اندفعت البقية وراءه؛ فإذا تأخر وتقدم غيره، اندفعت وراء الآخر؛ فإذا انحرفت مجموعة، انحرفت الطيور كلها جميعاً، وهكذا الناس يتبع بعضهم بعضاً؛ فالناس عندما يرون إنساناً يفعل شيئاً، اتبعوه دون أي تفكير، وهذا من العجب؛ لأن الله تعالى ميز الإنسان بالعقل؛ لكن قَلَّ من يحكم عقله في أمور حياته وَيُغَلِّبُه على هواه.
  3. أتبع السيئة الحسنة تمحها

    وهنا يتحدث شيخ الإسلام رحمه الله عن داعي الخير وداعي الشر، فيقول: "ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده، فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه، وذلك بشيئين: بفعل الحسنات، وترك السيئات، مع وجود ما ينفي الحسنات، ويقتضي السيئات، وهذه أربعة أنواع.
    ويؤمر أيضاً بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة" أي: بإتيان الحسنات وترك السيئات من غير العكس، "بحسب قدرته وإمكانه قال تعالى: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:1-3]" فكل إنسان خاسر وإن جمع ما جمع، وإن عاش ما عاش، وإن فعل ما فعل، فهو خاسر خسارة لا ربح معها، إلا من استثناهم سبحانه وتعالى بقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:3] فلديهم الإيمان الذي يستلزم العمل الصالح وهو جزء منه، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالصبر؛ إذ لا يكتمل إيمانهم ولا يثبت، ولا تستقيم دعوتهم وأمرهم ونهيهم إلا بأن يصبروا على ما يلاقون من الأذى.
    يقول: "وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: [[لو فكر الناس كلهم في سورة (والعصر) لكفتهم]]" فأكثر الناس يحفظها، لكن من الذي يتدبرها ويتأملها ويفقهها؟! وإلا فهي كافية.