قال رحمه الله تعالى: (وأخرج
الطيالسي و
أحمد و
الترمذي -وحسنه- و
البيهقي عن
أمية بنت عبد الله قالت: (
سألت عائشة عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد بعد أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة ! هذه مبايعة الله العبد ما يصيبه من الحمى ) ).ففي هذا الحديث زيادة أنها مبايعة بين العبد المخلوق الضعيف العاجز المسكين المحتاج إلى رحمة الله ولطفه وتدبيره وعنايته في كل لحظة، وبين العزيز الجبار المتكبر الغني الحميد.قال: ( (
هذه مبايعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والحزن والنكبة، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها تحت ضبنه ) )، حتى ولو كان في يده نقود فوضعها في كمه -كما كانت العرب تفعل- فيفقدها فيبحث عنها فيجدها في وعائه أو تحت إبطه، وهذا مجرد خطأ منه فقط، فقد ظن أنها ضاعت وهي لم تضع، حتى هذه يكفر الله تبارك وتعالى بها عن المؤمن من خطاياه! فانظر إلى فضل الله تبارك وتعالى على المؤمن، وانظر فيما يجب على المؤمنين من الصبر والاحتساب مقابل هذا الفضل العظيم، وقد قال تعالى: ((
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ))[الزمر:10]، فمن صبر أخذ أجره من ذلك كله وافياً بإذن الله تعالى.يقول صلى الله عليه وسلم: ( (
حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ) ) فالذهب يصفى وينقى ويذهب عنه ما يعلق به من الكير إذا أوقدت عليه النار، وكذلك المؤمن حين يصيبه في هذه الدنيا عداوات ومحن وأمراض وأوجاع وآلام وابتلاءات، فإنما ينقى بذلك قلبه وإيمانه كما ينقى الذهب من الكير.ثم ذكر رحمه الله تعالى ما روي عن
أبي بن كعب رضي الله عنه في ذلك، (فعن
زياد بن الربيع قال: [
قلت لـأبي بن كعب : آية في كتاب الله قد أحزنتني ])، والتابعون كذلك كان يحزنهم ومن بعدهم ما أحزن وآلم الصحابة، فانظر كيف تتوارد أفهامهم وتتفق آراؤهم ونظراتهم وخواطرهم؛ لأنهم يتلقون من معين واحد، وبنفس التلقي وبنفس الشعور.قال: ([
قال: ما هي؟ قلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! إن المؤمن لا تصيبه مصيبة -عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، ولا نحبة نملة- إلا بذنب، وما يعفوه الله عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة ])، ونحبة النملة هي الرقاد الذي يصيب اليد أو الرجل، فتشعر كأن الذر يسير في رجلك، حتى هذه يكفر الله تعالى بها الخطايا، وهذا من فضله سبحانه وتعالى. (وعن
إبراهيم بن مرة قال: [
جاء رجل إلى أبي فقال: يا أبا المنذر ! آية في كتاب الله قد غمتني. قال: أي آية؟ قال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: ذاك العبد المؤمن، ما أصابته من نكبة مصيبة فيصبر فيلقى الله عز وجل ولا ذنب له ].وعن
عطاء بن أبي رباح قال: (
لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات في الدنيا ).وعن
ابن عباس : [
أن ابن عمر لقيه حزيناً، فسأله عن هذه الآية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]]) فانظر إلى هؤلاء الرجال الأفاضل يلقى بعضهم بعضاً فيتدارسون أمور إيمانهم ويتحدثون عن ذنوبهم وعن قلوبهم وعن أحوالهم يعرضونها على كتاب الله!ولو أننا كلنا -الشباب والدعاة- شغلنا أوقاتنا بمثل هذا، فإذا التقينا تحدثنا عن ذنوبنا وعن أحوالنا وعن قلوبنا وعما نلقى الله به، وعن الذنب الذي نفعله، ويقول كل منا للآخر: يا أخي! هل عثرت على شيء يرقق قلبي ويزيد إيماني ويدفعني إلى الخير وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل عثرت على أمر يرغبني في فضيلة من فضائل الذكر والعبادة ونحو هذه الأمور التي نحتاج إليها، لو فعلنا ذلك لتغيرت حياتنا والله، ولو انصرفنا إلى العلم النافع المفيد المثمر وتركنا فضول العلم؛ لكان ذلك خيراً، فكيف وقد تركنا كل شيءٍ حتى فضول العلم؟! وإنما نتحدث ونخوض في اللغو وفي فضول الكلام الذي لا يجدي ولا يثمر شيئاً، بل ربما كان إثماً وكان غيبة وكان نميمة وكان حسرة وندامة، نسأل الله العفو والعافية.يقول: ([
فقال -أي: ابن عباس -: ما لكم ولهذه، إنما هذه للمشركين قريش وأهل الكتاب ])، وقد ورد أن هذه لأهل الكتاب وللمشركين وليست للمؤمنين.والمقصود من هذا ليس الاغترار، وإلا وقعنا في قول
حذيفة رضي الله تعالى عنه: [
نعم أبناء عم لكم اليهود ، ما كان من حلوة فهي لكم، وما كان من مرة فهي لهم ]، فليس الأمر كذلك، فكيف نقول في قوله تعالى: ((
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ))[المائدة:44]: إن المراد به أهل الكتاب لأنهم لا يحكمون بـ
التوراة ؟! أليس من لم يحكم بالقرآن مثلهم؟! أوليس العمل بالقرآن أعظم وجوباً من
التوراة ؟!فإذا سلكنا هذا المسلك نكون قد فعلنا ما حذر منه
حذيفة رضي الله عنه، أما إذا قصدنا حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام فجدير بنا أن نسلك هذا السبيل وأن نتأمل فيه، فلا تعارض بين هذا وبين كون هذا خاصاً بالكفار؛ لأن الكفار هم الذين يجزون بذلك في الآخرة، وأما المؤمن فإنه -كما مر في الأحاديث- يجزى بذلك في الدنيا. وبعض الروايات تفسر بعضاً، فالروايات التي بينت أن ذلك في الدنيا معناها أن من يعمل سوءاً يجز به، كتابياً كان أو مسلماً، لكن الفرق أن المسلم يجزى بما يعمل من سوء في الحياة الدنيا ويرفع له به الدرجة أيضاً، وأما أولئك فإنهم يجزون في الدنيا، ولكن ذلك لا يمنعهم من الجزاء في الآخرة، أو يدخر لهم ذلك فيجزون به في الآخرة بأشد العذاب، نسأل الله أن يعافينا من ذلك.