قال: (وأخرج أحمد و هناد و عبد بن حميد والحكيم الترمذي و ابن جرير و أبو يعلى و ابن المنذر و ابن حبان و ابن السني في (عمل اليوم والليلة) و الحاكم وصححه و البيهقي و الضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، فكل سوء جزينا به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله لك يا أبا بكر ! ألست تمرض؟! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست تصيبك اللأواء؟! قال: بلى، قال: فهو ما تجزون به ) )، وفي رواية أخرى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا ).
قال: (وأخرج عبد بن حميد و الترمذي و ابن المنذر عن أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- قال: ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ! ألا أقرئك آية نزلت عليَّ؟! قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأنيها )، وانظر إلى أثر القرآن على نفوس هؤلاء، فإن هذه الرواية فصلت أكثر مما سبقها، قال: ( ( فأقرأنيها، فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاماً في ظهري حتى تمطيت لها ) ) أي: أخذ يتمطى بظهره؛ لأنه شعر كأنها حديدة قوية فقرت ظهره وقصمته، قال: ( ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر ؟! قلت: بأبي وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء؟! وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟!) )، أي: إذا كنا مجزيين فهذه مصيبة كبرى، ( ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت وأصحابك -يا أبا بكر - المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة ) ).
فأهل الفجور والشرك والإلحاد والضلال يجمع لهم ذلك ويجزون به يوم القيامة، نسأل الله العفو والعافية، وأما الدنيا فهي بالنسبة لهم كما جاء في الحديث: ( الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن ).
قال: (وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها عن أبي بكر قال: ( لما نزلت: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله! كل ما نعمل نؤاخذ به؟! ) ) فانظر كيف فهم الآية! ( ( فقال: يا أبا بكر ! أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارة ) )، وذكر أيضاً من طريق آخر (عن مسروق قال: ( قال أبو بكر : يا رسول الله! ما أشد هذه الآية: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء ) )، يعني: ليس بالضرورة أن يكون الجزاء أخروياً، وإنما مصائب الدنيا وآلامها وأحزانها التي لا يخلو منها أحد هي جزاء، فقوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) أي: بهذه المصائب في الدنيا.
قال: (وأخرج سعيد بن منصور والإمام أحمد و البخاري في تاريخه و أبو يعلى و ابن جرير و البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن عائشة ( أن رجلاً تلا هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: إنا لنجزى بكل ما عملناه؟! هلكنا إذاً! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه وفي جسده وفيما يؤذيه ) ) وهنا أُبهِم الرجل، فقد تكون عائشة رضي الله عنها أبهمت أباها، وقد يكون صحابياً آخر.
(وأخرج أبو داود وغيره أيضاً عن عائشة قالت: ( قلت: يا رسول الله! إني لأعلم أشد آية في القرآن ) ) وليس غريباً على الصديقة بنت الصديق أن تكون كأبيها في هذا الشأن، ( ( قال: ما هي يا عائشة ؟ قلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ) ) فأقرها على أنها أشد آية، لكن فسرها لها فقال: ( ( هو ما يصيب العبد من السوء حتى النكبة ينكبها، يا عائشة ! من نوقش هلك، ومن حوسب عذب، قلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: (( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ))[الانشقاق:8]، قال: ذاك العرض يا عائشة ، من نوقش الحساب عذب ) )، وهذا الحديث هو في الصحيح، لكن هذه الزيادة في أوله: ( من نوقش الحساب عذب ).
وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، قال: إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الغط عند الموت )، ولهذا ثبت في الصحيح أنها قالت: [ فما أكره لأحد شدة الموت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]؛ لأنها علمت أن هذا خير له، فمن فضل الله تبارك وتعالى أن من اشتد به الكرب عند الموت والغط يكون ذلك خيرٌ له؛ لأنه يكون آخر ما يتألم به، وبعده يلقى الله تبارك وتعالى ويقال: (( لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ))[الأعراف:49]، (( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ))[الحجر:46]، تتلقاهم الملائكة بالبشرى، ويكون ذلك الألم هو آخر ما يحس به من الألم، ففيه تمحيص للذنوب وفيه رفع للدرجة لمن كان من أهل الدرجات العلا جعلني الله وإياكم منهم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها -أيضاً كما أخرج الإمام أحمد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها )، وهذا أيضاً يشهد لتكفير الذنوب ببلاء معين.
قال: (وأخرج ابن راهويه في مسنده و عبد بن حميد و ابن جرير و الحاكم و-صححه- عن أبي المهلب قال: [ رحلت إلى عائشة في هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، قالت: هو ما يصيبكم في الدنيا ].
وأخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: (لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سددوا وقاربوا؛ فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها ).
وفي لفظ عند ابن مردويه : ( بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله! ما أبقت هذه الآية من شيء ) )، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم يقولون: بكينا وحزنا! وانظر كم آيات نمر بها مثل هذه الآية ولا نحس، فضلاً عن أن نصل إلى مثل هذه الشفافية وهذا التسامي والسمو الروحي والشعور القلبي!
قال: ( ( بكينا وحزنا، وقلنا: يا رسول الله! ما أبقت هذه الآية من شيء! ) ) أي: قالوا: ماذا نؤمل بعد هذه الآية؟! كيف لا نخاف، وماذا نرجو بعد أن نزل مثل هذا؟! قال: ( ( أما -والذي نفسي بيده- إنها لكما نزلت ) ) أي: هي كذلك ( ( ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا ) )، فما جاءكم من أمر الله فلا تقابلوه إلا بالأمل والطمأنينة والبشرى والاجتهاد في العمل، لا كما قال أهل الكتاب: (( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ))[النساء:46]، فهذه ألفاظ أهل الكتاب، لكن نحن -والحمد لله- اختار الله لنا أقوم طريق وأفضله، ولهذا رفع الله تبارك وتعالى عنا إصرنا والأغلال التي كانت على من قبلنا.
قال: ( ( ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا، إنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله به خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه ) )، أي: لا تحقر مصيبة ولا ألماً، بل احتسب ذلك عند الله تبارك وتعالى مكفراً يكفر به من خطاياك.
قال: (وأخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و مسلم عن أبي هريرة و أبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه؛ إلا كفر الله به من سيئاته ) ).
وذكر بعده حديث أبي سعيد : ( قال رجل: يا سول الله! أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: كفارات. قال أبي : وإن قلَّت؟! قال: وإن شوكة فما فوقها )، يعني: وإن كانت شوكة فما فوقها، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى.
وأما ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن راهويه في مسنده عن محمد بن المنتشر قال: [ قال رجل لـعمر بن الخطاب : إني لأعرف أشد آية في كتاب الله، فأهوى عمر فضربه بالدرة، وقال: مالك نقبت عنها؟! ] أي: قعدت تبحث حتى وجدت هذه الآية [ فانصرف حتى كان الغد ] وانظر كيف كانت تربية الصحابة رضي الله عنهم، [ قال له عمر : الآية التي ذكرت بالأمس ] فـعمر رضي الله عنه أراد أن يتأمل أيضاً وأن يفكر، فلما جاء الغد جاء الرجل، فقال له الآية التي ذكرت بالأمس. يريد أن يذكرها [ فقال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، فما منا أحد يعمل سوءاً إلا جزي به. فقال عمر : لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب ]، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم تألموا وحزنوا واستفظعوا ذلك حتى كانوا لا يأبهون بطعام ولا شراب من هول ما أوقعته في أنفسهم هذه الآية، قال: [ حتى أنزل الله بعد ذلك ورخص فقال: (( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ))[النساء:110] ]، فقالوا: الحمد لله حين رخص لنا ونفس عنا، ولو بقي الأمر على هذه الآية لبقي ذلك الهم والألم، ولاستدمنا الحزن على هذا الأمر الذي لا نطيقه.