المادة    
قال: "ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا، وبما شهد به في كتابه: أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال، وأن الطاعة سبب النعمة، فإحسان العمل سبب لإحسان الله، قال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ))[الشورى:30] وقال تعالى: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))[النساء:79] وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))[آل عمران:155] وقال: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))[آل عمران:165] وقال: ((أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ))[الشورى:34] وقال: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ))[الشورى:48]، وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))[الأنفال:33].
وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم -كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقوم فرعون- في الدنيا، وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة، ولهذا قال مؤمن آل فرعون: ((وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ* وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ))[غافر:30-33] وقال تعالى: ((كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ))[القلم:33] -أي: كذلك العذاب في الدنيا- وقال: ((سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ))[التوبة:101] -أي سنعذبهم مرتين في الدنيا- وقال: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[السجدة:21] -العذاب الأدنى في الدنيا، والأكبر في الآخرة على قول- وقال: ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ))[الدخان:10] إلى قوله: ((يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ))[الدخان:16].
ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا، وما أعده لهم في الآخرة، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط؛ إذ عذاب الآخرة أعظم، وثوابها أعظم، وهي دار القرار، وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعاً" يعني: ما يأتي في الدنيا فهو تبع لما في الآخرة، فالله تعالى جعل النصر للمؤمنين في الدنيا على سبيل التبعية، وإلا فالنصر الحقيقي يوم القيامة، قال تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))[غافر:51] فهناك النصر العظيم والفوز العظيم، لكن في الدنيا لهم كذلك النصر والعاقبة والمجرمون لهم الخزي العظيم في الدنيا ولهم العذاب الشديد في الآخرة.
يقول: "كقوله في قصة يوسف: ((وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ))[يوسف:56-57]" فأعطاه الله الملك؛ لأنه أحسن في الدنيا، ولكن أجر الآخرة خير وأبقى وأعظم وأفضل، فكان هذا جزاءه؛ لأنه كان عبداً صالحاً عرضت عليه أعظم ملذات الدنيا، وفي أشد دواعيها ومقتضياتها، حيث أغرته امرأة الغزيز بجمالها ومنصبها، فقد كانت هي الملكة، وهو العبد الرقيق المشترى، وهي في أجمل حلة، وفي خلوة، وهي صاحبة الأمر والنهي في المملكة، وليس فقط في البيت، وتدعوه إلى فعل الفاحشة، وهو شاب غريب منقطع، ومع ذلك أبى واستعصم، ولما رأى مكر النسوة من حوله ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ))[يوسف:33] فاختار السجن على المعصية، ولهذا قيل: إن امرأة العزيز مرت به وهو قادم في موكبه، فلما رأت ما عليه من الملك، قالت: (سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته) فقد سُلب منها العز والملك، وأما ذلك العبد الذي اشتري بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، فإنه قد أصبح ملكاً، يجلس على عرش مصر، وهذا من عاجل إنعام الله وثوابه للمحسنين، ومن عاجل عقوبة الله للمسيئين في الدنيا.
يقول: "وقال: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ))[آل عمران:148] وقال: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))[النحل:41-42] وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ((وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ))[العنكبوت:27]".
  1. عقوبات المنذرين من الأمم