قال رحمه الله تعالى: (قالوا: وهذا على أصول
أهل السنة أظهر) أي: الأقرب والأرجح هو هذا القول؛ لأننا نرجع المسألة إلى أصل عظيم من أصول
أهل السنة والجماعة ، وهو مذهبهم في الإيمان وأصل الإيمان عندهم. قال رحمه الله تعالى: (فإنهم متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين، ويكون محبوباً لله مبغوضاً له من وجهين أيضاً، بل يكون فيه إيمان ونفاق وإيمان وكفر، ويكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الآخر، فيكون من أهله). يعني أن قلبه تمده مادتان، ويكون إلى إحداهما أقرب. قال رحمه الله تعالى: (كما قال تعالى: ((
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167]). وفي هذه الآية علمنا الله العدل والإنصاف حتى مع المنافقين، فالمنافقون منهم المنافقون نفاقاً أكبر، الذين ذكر الله تعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم وكفروا بعد إسلامهم وأن الله لا يقبل منهم، وأن شهادتهم بأن محمداً رسول الله يشهد الله على أنهم فيها كاذبون، ويعلم أنهم فيها غير صادقين، فهذا نوع، ومنهم نوع آخر هم ضعاف إيمان، والإشارة إلى ذلك جاءت في سورة التوبة وسورة الأحزاب، كما قال تعالى: ((
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ))[الأحزاب:60] فذكر ثلاثة أصناف: المنافقين النفاق الأكبر، والذين في قلوبهم مرض تمدها مادتان: نفاق وإيمان، والمرجفون، وفي سورة التوبة فصل أكثر، فذكر تعالى السماعين من ضعاف الإيمان، ومن كفر بعد إيمانه، ومن كفر بعد إسلامه، ومن هو للكفر أقرب منه للإيمان. قال رحمه الله تعالى: (وقال: ((
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))[يوسف:106]). هذه الآية فسرها
ابن عباس وغيره بأنها ليست في المشركين الذين يعبدون الأصنام، بل فيمن يؤمن بالله ولكنه يشرك شرك الألفاظ أو الشرك الأصغر أو الشرك الخفي. قال رحمه الله تعالى: (فأثبت لهم الإيمان به مع مقارنة الشرك، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله، وإن كان معه تصديق لرسله وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل وباليوم الآخر؛ فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر وشركهم قسمان شرك خفي وشرك جلي). كما قال
ابن عباس في قوله تعالى: ((
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))[البقرة:22]: هذه تفسر تلك، ولذا لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما شاء الله وشئت، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (
أجعلتني لله نداً؟! ) مع أنه في الحديث الآخر لما سئل: أي الذنب أعظم قال: (
أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، فهل هذا من هذا؟! لا. ولكنه يوصل إليه وذريعة إليه، فهذا شرك يفعله المؤمن؛ لأنه عطف بالواو فقال: (ما شاء الله وشئت) فقرن بين الله وبين العبد المخلوق، ولو كان النبيَّ صلى الله عليه وسلم. وقال
ابن عباس أيضاً في هذا: [
أن يقول الرجل: لولا البط في الدار لسرقنا اللصوص، وأن يقول: وحياتك ] فهذا شرك الألفاظ، وهو شرك عظيم يدخل في الندية وإن كان صاحبه لا يعتقد أن مع الله نداً، أما إن اعتقد أن مع الله نداً فقد كفر. إذاً: قد يجتمع في العبد الإيمان والشرك، فالمقصود أنه إذا كان ممكناً أن يجتمع في العبد الإيمان والنفاق، والإيمان والشرك، والطاعة والمعصية؛ فكذلك تجتمع في العبد الواحد التوبة والمعاودة، وهذه المعاودة لا تعدو أن تكون ذنباً كما أن تلك التوبة حسنة، فالحسنة مع الحسنات الأخرى من صلاة وصيام وزكاة ونحو ذلك في كفة اليمين، والمعاودة هي ذنب من جملة ذنوب أخرى تكون في كفة السيئات، والله تعالى يضع الموازين القسط ليوم القيامة: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ))[يونس:44]، فهذا هو خلاصة الأمر في هذه المسألة.