قال رحمه الله تعالى: (وفي هذا الأصل قولان: فقالت طائفة: يعود إليه إثم الذنب الأول).
فبعض العلماء قالوا: يرجع إليه إثم الذنب الأول ما دام أنه نقض التوبة؛ لأن التوبة بطلت.
قال رحمه الله تعالى: (قالوا: لأن التوبة من الذنب بمنزلة الإسلام من الكفر).
إذاً: دليلهم هنا هو القياس، حيث قالوا: التوبة من الزنا أو الخمر أو أي شيء من الفواحش كتوبة من يتوب من الكفر ويدخل في الدين.
قالوا: (والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه، فإذا ارتد عاد إليه الإثم الأول مع إثم الردة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر )، فهذا حال من أسلم وأساء في إسلامه، ومعلوم أن الردة من أعظم الإساءة في الإسلام، فإذا أخذ بعدها بما كان منه في حال كفره ولم يسقطه الإسلام المتخلل بينهما؛ فهكذا التوبة المتخللة بين الذنبين لا تسقط الإثم السابق كما لا تمنع الإثم اللاحق، قالوا: ولأن صحة التوبة مشروطة باستمرارها والموافاة عليها) أي: أن يظل كذلك إلى أن يلقى الله وهو تائب (والمعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط، كما أن صحة الإسلام مشروطة باستمراره والموافاة عليه قالوا: والتوبة واجبة وجوباً مضيقاً مدى العمر)، وهذا من الاستنباطات الفقهية الدقيقة، يقولون: الواجبات الموقوتة التي فرضها الله علينا لها أوقات معينة، وكذلك التوبة موقوتة، لكن وقتها العمر كله، كما قلنا: إن التوبة هي الاستقامة الدائمة. قالوا: (فوقتها مدة العمر؛ إذ يجب عليه استصحاب حكمها مدى عمره، فهي بالنسبة للعمر كالإمساك عن المفطرات في صوم اليوم، فإذا أمسك معظم النهار ثم نقض إمساكه بأحد المفطرات بطل ما تقدم من صيامه) ولو لم يبق من النهار إلا قليل (ولم يعتد به وكان بمنزلة من لم يمسك شيئاً من يومه. وقالوا: ويدل على هذا -أي: القياس- الحديث الصحيح؛ وهو قوله: ( إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )، وهذا أعم من أن يكون هذا العمل الثاني كفراً موجباً للخلود أو معصية موجبة للدخول؛ فإنه لم يقل: فيرتد فيفارق الإسلام، وإنما أخبر أنه يعمل بعمل يوجب له النار).
أي أن هذا العمل الذي يدخل النار أعم من أن يكون كفراً وأعم من أن يكون معصية.
(وفي بعض السنن: ( إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في وصيته فدخل النار ) ).
وهذا بعض ما فسر به حديث عبد الله بن مسعود : ( إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة ... )، فهذا رجل كان على عبادة وخير وفضل وتقوى وصلاح، ولكن لما جاءه الموت جار في الوصية، فبعض الناس إذا جاءه الموت طلق الزوجة حتى لا ترث، وأوقف المال على الذكور دون الإناث، فاعتدى وغير بهذا القصد، فهذا الجور -مع عبادته ومع ما عمله من خير- نوع من سوء الخاتمة.
قال رحمه الله تعالى: (فإن قيل: فهذا يلزم منه إحباط الحسنات بالسيئات وهذا قول المعتزلة) حيث يسوون بين إحباط السيئات للحسنات وتكفير الحسنات للسيئات.
قال رحمه الله تعالى: (والقرآن والسنة قد دلا على أن الحسنات هي التي تحبط السيئات لا العكس).
هذا على قول المعترض، وإلا فليس الذي ورد في الكتاب والسنة هو أن الحسنات تذهب السيئات وتحبطها فحسب دون العكس، بل ورد في القرآن هذا وهذا.
ثم ذكر رحمه الله استدلال المعترض بقوله تعالى: (( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ))[هود:114] وبقوله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ في الوصية المشهورة: ( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ).
ثم ذكر أن القرآن والسنة دلا على إحباط السيئات للحسنات، وعلى أن الحسنات تذهب السيئات، كما أنهما دلا على الموازنة بينهما فقال رحمه الله تعالى: (فأما الموازنة فمذكورة في سورة الأعراف ... وأما الإحباط فقد قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))[محمد:33]، وتفسير الإبطال هاهنا بالردة؛ لأنها أعظم المبطلات لا لأن المبطل منحصر فيها) يعلل تفسير الإبطال بالردة بأنها أعظم المبطلات لا أنها المبطل الوحيد قال: وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ))[البقرة:264]) إذاً: المن والأذى يعرضان للصدقة فيبطلانها مع أنها في الأصل من الخير.
قال: (وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ))[الحجرات:2]).
إذاً: فلو أن أحداً فعل ذلك فقد يحبط عمله مع أن العمل السابق كان عملاً صالحاً، لكنَّه بهذا الذنب قد يحبط، ومثل هذا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -كما في الصحيح- لأم ولد زيد بن أرقم لما باع بيع العينة: [ أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب ].
قال رحمه الله تعالى: (وقد نص أحمد على هذا في رواية فقال: (ينبغي للعبد أن يتزوج إذا خاف على نفسه، فيستدين ويتزوج، ولا يقع في محظور فيحبط عمله) )، فالإمام أحمد رحمه الله يقول: إذا خشيت على نفسك الفاحشة وأن تقع في محظور واشتد بك العنت؛ فإنه يجب عليك في هذه الحالة أن تتزوج ولو كان ديناً، حتى لا تقع في الفاحشة فيحبط العمل فتخسر الدنيا والآخرة، نسأل الله العفو والعافية.