قال رحمه الله تعالى: (فشرط بعض الناس عدم معاودة الذنب وقال: متى عاد إليه تبينا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة).
وقد بحثت لأجد من قال ذلك، فوجدت أن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قال في الجزء الحادي عشر من الفتح في شرط عدم العودة إلى الذنب: (عُزي إلى القاضي أبي بكر الباقلاني )، وهو إمام مشهور من أئمة الأشعرية ، وهو من قدماء الأشعرية ، ولذلك -بالنسبة إليهم- يعد من أمثلهم ومن أفضلهم فهو يؤمن ببعض الصفات التي أنكرها من جاء بعده، ولديه حظ من العلم الشرعي خير ممن جاء بعده من متكلمي هذا المذهب.
لكن ابن حجر رحمه الله تعالى قال: (ويرده الحديث الآتي بعد عشرين باباً)، وقد بحثت فيما بعد خمسة عشر باباً إلى ثلاثين باباً ولم أجده، وإنما وجدت الحديث في كتاب التوحيد، وهو حديث محفوظ عند الجميع، وهو حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب -وفي بعض الروايات: فأذنب ذنباً آخر- فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك ).
وهذا لفظ مسلم ، وأما لفظ البخاري ففيه أن الله تعالى قال: (غفرت لعبدي) بعد ذكر الإذناب في المرات الثلاث. ولعل الحافظ يقصد هذا الحديث والله أعلم، وإن كانت رواية: (فأذنب ذنباً آخر) جعلتني أقول: لعله كان ذنباً آخر، أي أنه أذنب ذنباً غير الذي تاب منه، وهذا مثاله أن يكون -مثلاً- قد شرب الخمر، ثم تاب منها، ولكن غلبه الشيطان فوقع في الزنا، فتاب أولاً من الخمر ثم تاب من الزنا، ومع ذلك نقول: القضية واحدة؛ لأن القضية قضية معصية وذنب وكبيرة، فهل هو في طريق الغواية أم في طريق الهداية؟ وهل هو مطيع للرحمن أم مطيع للشيطان؟
أما مسألة أنواع الذنوب، وإذا تاب من ذنب فهل تلزم من آخر؛ فقد تقدمت فيما مضى، وهي مسألة أخرى.
إذاً: هذا الحديث يدل على هذا، ولكن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى لا يكتفي بأن يورد المسألة ويورد عليها حديثاً أو حديثين، ولهذا أطال أكثر من الحافظ وغيره فأورد الأدلة العقلية والنقلية لكلتا الطائفتين، وسوف نوجز ما أورد من هذه الأدلة.
قال رحمه الله تعالى: (والأكثرون على أن ذلك ليس بشرط، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته، فإن كانت في حق آدمي فهل يشترط تحلله؟ فيه تفصيل سنذكره إن شاء الله، فإن عاوده مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ولم تبطل توبته المتقدمة).
يقول: إن الأكثرين على أنه إذا تاب توبة صادقة مع العزيمة على ألا يرجع إلى هذا الذنب ثم وقع فيه فإنه يستأنف، يعني: عمل ذنباً وتاب توبة كفرت الذنب، ثم عاد فعمل ذنباً، فهذه صفحة جديدة يكتب فيها ذنب جديد، فإن تاب منه محته التوبة، وإن استمر عليه أخذ به، أما ما قبله فقد انقضى بالتوبة الأولى.
ومن العلماء الذين قالوا بهذا الإمام النووي رحمه الله؛ فإنه يرى أن الذنوب ولو تكررت ألف مرة وتاب في كل مرة تقبل توبته منها، وكذلك إذا تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته، اعتماداً منه على عموم الأدلة مثل الحديث السابق ذكره، وحديث: ( إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) فرحمة الله تعالى دائمة، كما أن الإساءة دائمة، وحديث أبي ذر رضي الله عنه: ( يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم ).
إذاً: تتكرر الذنوب ويتكرر الغفران، فإن قيل: تغفر مهما بلغت؟ قلنا: نعم.
وقد أتى ابن القيم رحمه الله بأصول المسألة فقال: (فالمسألة مبنية على أصل، وهو أن العبد إذا تاب من الذنب ثم عاوده فهل يعود إليه إثم الذنب الذي قد تاب منه ثم عاوده بحيث يستحق العقوبة على الأول والآخر إن مات مصراً، أو أن ذلك قد بطل بالكلية فلا يعود إليه إثمه وإنما يعاقب على هذا الأخير؟).
وهذا سؤال مهم جداً؛ إذ كل منا بحاجة إلى الجواب عنه لأننا نرتكب الذنوب ليلاً ونهاراً.