ثم حدد الذكر وعرفه فقال: (الذي يتواطأ عليه القلب واللسان) ومن الناس من يذكر الله بلسانه، ولا يذكره بقلبه، ولا يواطئ قلبه لسانه، فأفضل الذكر وأعلاه أن يذكر العبد ربه تبارك وتعالى بلسانه، ويواطىء قلبه لسانه، فلا يذكره -كما يذكر بعض الناس- ذكراً مشوباً بالغفلة، فيكون ألفاظاً ترددها الشفاة واللسان، القلب في غفلة عنها، وإنما هو استحضار لعظمة وإجلال لله تبارك وتعالى بالقلب، وتعظيم وخشوع له، وذلك يتبع ويصاحب ويرافق ذكره تبارك وتعالى باللسان، فإذا قال سبحان الله؛ فإنه يقوله مستحضراً تنزيه الله وتقديسه عز وجل وتعظيمه، وإذا قال: لا إله إلا الله؛ فإنه يقول ذلك مستحضراً ومستصحباً لألوهية الله تبارك وتعالى.. وهكذا كل ذكر من الأذكار يقوله ويواطئ قلبه عليه لسانه.
ثم ذكر حديث معاذ رضي الله تعالى عنه (قال: ( قلت: يا رسول الله! أخبرني بأفضل الأعمال، وأقربها إلى الله تعالى، قال: أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله ) )، ثم ذكر الحديث القدسي الصحيح المعروف، الذي يقول فيه الله تبارك وتعالى: ( ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم )، وفي الحديث الآخر: ( أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه ) ، وقال الله تبارك وتعالى: (( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ))[البقرة:152].
( ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل -وهم معه في سفر، كما جاء في الحديث- قال لهم: إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم )، وفي رواية: ( هو أقرب إليكم من أعناق رواحكم ) ).
واكتفى رحمه الله في هذا الموضع بهذا ولم يطل؛ لأنه وإنما أراد الإشارة فقط، لكن لو رجعنا إلى آخر حديث ذكره من العشرة الأحاديث التي أضافها إلى الأربعين فصارت بها خمسيناً؛ فإنك تجد هناك كلاماً شافياً تاماً، فلا ينبغي لنا أن نتجاوز الموضوع إلا بعد أن نأتي على طرف منه بإذن الله تبارك وتعالى، وهو عند حديث عبد الله بن بشر قال: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ.. ).
فهذا الرجل يريد أخصر طريق إلى الجنة، ويريد عملاً يستطيعه ويطيقه، ويأخذه مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ منه ويعمل به من شرائع الإسلام؛ لأنها كثرت، فإنه يسمع الأحاديث والآيات عن الجهاد، وعن الصيام، وعن الصدقة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن كثير من أبواب الخير، فيرى أنها قد كثرت عليه الشرائع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد شيئاً محدداً فقال: ( يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فباب نتمسك به جامع ) أي: المطلوب أن تذكر لي باباً أتمسك به، وأرشدني على باب جامع، وأمر عام إذا فعلته أتيت على خير كثير جملة واحدة بعمل واحد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) أخرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ وأخرجه الترمذي و ابن ماجه و ابن حبان في صحيحه بمعناه.
ثم ذكر بعد ذلك الحديث الذي أشار إليه هنا وأوجزه وهو: ما خرجه ابن حبان وغيره في صحيحه من حديث معاذ قال: ( آخر ما فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلت له: أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ) ، ومعاذ رضي الله تعالى عنه فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعثه إلى اليمن في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى ومعاذ في اليمن ، وقدم إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نجد عدة أحاديث فيها استكثار معاذ من الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه، فقال له في بعضها: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، وهناك أحاديث غير هذا الحديث.