يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -وهو من أعطاه الله من الفقه والحكمة-: (عجباً لهؤلاء، أطع الله تجد من يلومك) أي: لا تحتاج أن تعصي الله حتى يلومك الناس، أطع الله، واتق الله، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر؛ تجتمع الدنيا كلها عليك لوماً.
ولم يُلَمْ أحد والله أعلم من بعد الإمام أحمد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ، ما من أذى وتعذيب وسجن وتشهير وتكفير وتضليل وتبديع إلا وتعرض له؛ لأنه استقام على الحق.
فيقول: (ليس هذا حقاً، بل استقم على دين الله، ومن غير أن تطلب اللوم فسوف تلام، وعندها يجب عليك أن تصبر، أما أن تخالف شرع الله من أجل أن تلام، فتحتسب هذا اللوم، أو تخالف حتى يدفع عنك الغرور والعجب! فهذا مخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم استقاموا على دين الله، ولامهم الخلق وعذبوه وأوذوا واضطهدوا، حتى أقرب الناس إليهم لامهم، فهذا أبو طالب يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إن قومك فعلوا كذا، وعرضوا كذا، وقالوا كذا..، فلم يأبه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: أنت استقم على الدين، وافعل الخير، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، وسيأتيك اللوم، وحينئذ لا تأخذك في الله لومة لائم؛ لأن هذه الصفة، هي كما قال الله تبارك وتعالى: (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54]، وبعد أن ذكر هذه الصفات، قال: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] أي: هذه الصفات لا يمن الله تبارك وتعالى بها إلا على من يصطفيهم ويختارهم.
إذاً: حري وجدير بكل مسلم أن ينافس وأن يسابق؛ ليكون منهم.
ومن لا يريد أن يقدم هذه التضحيات فلن ينال هذه الدرجة، وهذا الاصطفاء، وهذا الكرم، وهذا الفضل، لأن هذا فضل الله يختص برحمته من يشاء: (( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ))[الأنبياء:23].
فعليك أن تجتهد لتكون ممن يختارهم الله ويصطفيهم لهذا؛ ولذلك يقول ابن رجب رحمه الله: (وقوله تعالى: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة، (( وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))[المائدة:54] واسع العطاء، عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه.
ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: ( اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً )، وكان داود يقول في دعائه: ( اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتاني ربي -يعني في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك ) وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: ( اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجة الدنيا بالشوق إلى لقائك، فإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيني بعبادتك )، فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم همّ إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه).
كما تلاحظون ابن رجب رحمه الله جعل القضية كلها تابعة لصفة المحبة، فهؤلاء القوم همهم في الدنيا هو الحصول على مرضاة الله، ومحبة الله تبارك وتعالى.
ثم قال: (قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور)، وقد تقدم الكلام في هذا عند الكلام على الحب والخوف والرجاء، ولكن أجمع ما يقال فيها: إن الخوف والرجاء كالجناحين، والمحبة هي الرأس، فليكن عمل الإنسان كالطائر، الرأس هو الموجه وهو الأساس، والخوف والرجاء جناحان لا يميل أحدهما عن الآخر، ولو طار الطائر بجناح واحد لسقط.
فإذاً: العمل على الخوف قد يغير الرجاء ويضعفه، وإضعاف الرجاء لا ينبغي؛ لأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة الله ).
قال: (والعمل على المحبة لا يدخله الفتور). وهذا حق، فأي شيء تعمله وأنت تحبه لا يدخله الفتور، ولو كنت في آخر الليل وتريد أن تنام؛ لأنك مرهق، فجاءك إنسان بعمل تحبه وتشتاق إليه؛ فإنك تقوم وتنشط وتنسى النوم وتشتغل وتسهر.
وإذا كنت مريضاً فزارك إنسان تحبه، فإنك تقوم وتنسى المرض.. وهكذا، فـ العمل على المحبة لا يلحقه الفتور، ولا يلحقه الممل ولا السأم، ولهذا كان العمل عملاً خالصاً لله تبارك وتعالى؛ لأن العبد يعمله بمحبة، وشوق، ويعمله بهذه الرغبة؛ فيكون ذلك من العمل الصالح الخالص الصالح عند الله تبارك وتعالى.
وقال أيضاً: (ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم، فلا يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
قال فرقد السبخي : قرأت في بعض الكتب: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه)، وينبغي أن نقول: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من محبته، حتى لا يظن أن الهوى ينسب إلى الله، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده آثر من هوى نفسه.
ثم قال: (فالمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء).
يعني: الله تعالى يجعله كذلك.
ثم قال: (زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى، يحبونه ويحبون ذكره، ويحببونه إلى خلقه) لاحظ كيف يحبهم ويحبونه؟!