لا بد أن يكون المسلم ممن لا يخاف في الله لومة لائم، لا يخاف أبداً ما دامت أعماله حقاً، وبميزان الكتاب والسنة.
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائماً يتحرون الحق، حتى في الأمور المندوبة، وفي السنن المستحبة، ويعلل أحدهم ذلك: بأني لا أخاف في الله لومة لائم.
أقول: هذه الجملة من الآية من المهم جداً لطلبة العلم أن يتدبروها، يقول ابن رجب رحمه الله: (فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضاً فالجهاد في سبيل الله دعوة للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان.
فـ المحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى الله، كما قال بعضهم: وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل، من غيرته على دين الله، وغيرته أن تنتهك حرمات الله، ومن تعظيمه لله ومحبته له، فهو لا يريد من أحد أن يغضب الله أو يتعدى حدوده، فيؤثر أن يقرض بالمقاريض ولا يعصى الله عز وجل، فهذا يعظم الله تبارك وتعالى ويحبه.
فالمحب لله يحب أن يكون الخلق كلهم عبيداً لله طائعين له، ولا يرضى أن أحداً منهم يعصى الله أويتجاوز حدوده.
ثم قال: (فمن لم يجد الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف، عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ولا يخافون لومة لائم، ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه وسخط من سخط).
ابن رجب كانت عادته كعادة ابن القيم يتكلم بروحانية وبشفافية، فيأتي بأساليب وعبارات أدبية، ثم يستشهد بالشعر، كما تقرءون لهما رضي الله تعالى عنهما، فهو لا يكتفي بكلام الفقيه أو المؤصل، بل ينتقل إلى واحة الشعر والأدب، ويبدأ يعبر بهذه التعبيرات الأدبية الجميلة، فيقول: (ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه، وسخط من سخط، فمن خاف الملامة في هوى من يحبه فليس بصادق في المحبة:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي            متأخر عنكم ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم)
وهذه الأبيات يقول فيها بعض الناس: إنها أبلغ أبيات قالتها العرب في الحب، وهذه الأمور ذوقية، فقد ترى أنت أن غير هذا أبلغ.
وقال آخر:
وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً            أين المهان لديك ممن يكرم
أي: من أجلك أهنت نفسي.
فقوله:
(أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم)
أي: أفرح حين يلومونني؛ لأنهم يلومونني في حبك، فهم يذكرونني بك، كما يقول:
لقد نقل الواشون عنك            فقد سرني أني خطرت ببالك
وهذه قالها أحد شعراء الهوى، يقول: كلما يقولون عنك: إنك لا تحبينني أفرح به؛ لأن المهم عندي أني خطرت ببالك، فانظر إلى هذا الحب العظيم العميق، ويخطر ببال من؟ ومن أجل من؟ وما النتيجة؟ سبحان الله!
فكيف يكون شعور المؤمن إذا ذكر الله؛ فإنه يستشعر أن الله يذكره، كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) الله أكبر! جبار السماوات والأرض سبحانه الغني الحميد، القائل: (( إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ))[إبراهيم:8]، والقائل: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15] ومع ذلك يقول: ( إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) فهو سبحانه بدون واسطة يعلم أنك ذكرته، ثم قال: (وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) مهما تخيلت من ملأ في الدنيا، فالملأ الأعلى المقربون عند الله تبارك وتعالى هم خير هؤلاء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : ( إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا... ))[البينة:1]، قال: وسماني؟ قال: نعم، فبكى أبي ) هكذا يكون المحب المحبة الحقيقية، أما أهل الهوى فيقولها في حق المحبوب.