وهنا نذكر شبهة لا يصعب فهمها بإذن الله مع الرد عليها، وهي أنه إذا قيل: إن احتمال الخطأ وارد على أي إسنادٍ كان فلا بد من رد الحديث، فنقول: نعم احتمال الخطأ وارد على كل أمر، ولذلك فعلماء الجرح والتعديل الذين يوثقون الرجال أو يضعفونهم ما حكموا على أحدٍ بأنه معصوم، ولا يوجد من قال عن أيّ إمام من أئمة الحديث وأئمة النقل: إنه معصوم، حتى أوثق الناس نقلاً، الذين لم يعهد عنهم خطأ، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى علينا، وهو أن عندنا أئمة لم يعهد عليهم خطأ، أي: لم يضبط عليهم خطأ، وهذه نعمة وفضل من الله أن يروي مئات أو آلاف من الأحاديث ولا يخطئ في حديث واحد، ولكن مع ذلك لم يقل أحد: إن هؤلاء معصومون؛ مع أنه ليس عندنا حديث أخطئوا فيه، ولكن احتمال الخطأ عليهم وارد، فالإمام مالك رحمه الله مثلاً، أو شعبة ، أو الإمام أحمد ، أو وكيع وأمثالهم من الأئمة الذين تستقرأ أحاديثهم كلها فلا تجد فيها خطئاً، هؤلاء أئمة أفذاذ، وكذلك غيرهم ممن اختارهم الله سبحانه وتعالى حفظةً وحملةً لهذا الدين، هؤلاء نقول: هم أجل علماء الحديث، وأجل النقلة، وأجل الحفاظ بعد الصحابة والتابعين، ومع ذلك فنحن لا نقول: إن أحداً منهم معصوم وإنما نقول: إنه لم يخطئ فيما نقل، وهذا غاية ما نقول، فإن كانت القضية هي قضية احتمال الخطأ فنحن نقول لكم: يا أهل الكلام! من معتزلة وغيرهم نعم إن احتمال الخطأ وارد.
فإن قالوا: إذاً: وافقتمونا في قولنا: باحتمال ورود الخطأ، فكونوا مثلنا لا نقبل الآحاد، فنقول: لا. هنالك فرق كبير بين احتمال الخطأ ذهناً وعقلاً وتصوراً وبين أن يُبنى عليه الحكم وكأنه أمر واقع فالاحتمال الذهني لا يصح أن نبني عليه الحكم على الواقع، ونضرب أمثلة لتوضيح هذا فنقول: ما رأيكم في الأطباء أيخطئون أم هم معصومون؟ فسيقولون: لا، كل طبيب بعينه جائز عليه الخطأ حتى لو كان أوثق الناس طباً، فنقول: فما رأيكم فيمن يرفض طبيباً من أمهر الأطباء ولا يتداوى عنده على الإطلاق بحجة احتمال أن يخطئ؟ فما رأيكم فيمن يقول: لا يتداوى عند أي: طبيب أبداً؛ لأن الخطأ وارد على أي طبيب، وكم من طبيب عالج مريضاً فمات، فالأحوط أن لا نذهب إلى أي طبيب مطلقاً، سواء تواتر الأطباء أو لا فإن الخطأ وارد عليهم، وقد وقعت منهم أخطاء؛ ولذا نرد علم الطب جملةً؛ لوجود قائمة من المتوفين بسبب أخطاء الأطباء، وعلى قول هؤلاء فلا داعي لدراسة الطب ولا لفتح كلياته؛ لأن الخطأ وارد كما هو مقتضى القياس، فهل يصح هذا القول؟!ونضرب مثالاً آخر، وهو أن هناك كم من الناس من يأكل طعاماً فيموت مسموماً -والعياذ بالله- وهذا قد يقع في بعض الأماكن، فهل نقول: يجب أن تقفل كل المحلات في الدنيا ولو كانت من أجود أماكن الأطعمة؛ لأن احتمال التسمم وارد في كل طعام، وفي كل طبخة، وفي كل رغيف، لشيء محتمل، والعقل لا ينفي ذلك أبداً، فعليه لابد أن تقفل كل محلات الأطعمة فلا يصنع طعام قط، ولا يطبخ طعام قط؟! فإذا قالوا: على هذا لا نقدر أن نعيش نقول: أنتم من بنيتم على هذا الاحتمال رد السنة ورد الدين، أليست حاجة الناس إلى الوحي والإيمان ونور النبوة أشد من حاجتهم إلى الدواء وإلى الطعام؟! فقولكم بأن ورود الاحتمال يبطل كل الأحاديث، ويلزمكم كذلك أن يبطل به الطب ونحوه مما يرد فيه احتمال الخطأ، فهذا مثل هذا، فإن قلتم: لابد أن يأكل الناس، ولا بد أن يتداووا، وصاحب الخطأ نرد عليه خطأهُ، فنحن كذلك نقول: إذا ثبت خطأ أي راوٍ ووقع فعلاً فإننا لا نقبله، أما الرد لمجرد احتمال الخطأ فهو وارد عليكم في الطب، ووارد عليكم في الطعام، بل لو استرسل العقل البشري في هذا لأصبح الناس مجانين، ومثل ذلك أن بعض السطوح قد تسقط على الناس بسبب أخطاء المهندسين، فهل نمنع الناس من العيش في البيوت خوف من ذلك؟!
وقس على ذلك أموراً كثيرة جداً، فـ لو أن العقل عمل بالاحتمالات الواردة لما استقامت للناس الحياة الدنيا ولا الآخرة، ولأصبحت حياتهم فوضى لا نهاية لها، فقولكم: إنه باحتمال الخطأ نترك الحديث يبطله العقل السليم وواقع الناس في حياتهم، فالله تبارك وتعالى فطر الناس على الجزم بتصديق بعض الأخبار وإن جاءت من آحاد أو أفراد، بل حتى من ضعيف عقل أو ضعيف تفكير أو من طفل؛ لأن الله سبحانه وتعالى أودع في عقل الإنسان الذي فطره عليه قابلية العلم الصحيح، أما احتمالاتكم فإنها قد أفسدت العقول والقلوب، وهذا الفساد جاءها من السفسطة، وهذا القول -فضلاً عن الصحابة والتابعين- لو قيل في الجاهلية لقال الناس: هؤلاء مجانين؛ لأن العرب في الجاهلية كانوا على فطرة سليمة نقية، وهي ميزة العرب عموماً، وميزة أهل الصحاري والبوادي الذين لم يتأثروا بالفلسفة بل لرفضت حتى من أهل الحضارات والمدن الذين لم يتأثروا بالفلسفة، فميزة العقل السليم أنه يقبل العلم النافع وإذا بدأ يتفلسف دخل في متاهات الجنون والعياذ بالله واختل عقله، واختلت نظراته وأصبح يعمل بهذا المعيار الذي لا ينضبط أبداً، فالله سبحانه وتعالى أودع في العقول معرفة أمور إلى حد الجزم، وأودع فيها معرفة أمور إلى حد الظن والشك، ونضرب مثالاً على ذلك بما ذكره الشيخ المعلمي رحمه الله حيث مثل بأنه لو أن طفلاً صغيراً طرق عليك الباب وقال: إن أبي مات، وعندما فتحت الباب وجدت أنه ابن لأحد جيرانك، ولكن لابد من التأكد، فهذا طفل صغير، فلو أنك عندما فتحت الباب سمعت صياح النساء في البيت، ورأيت سيارة الإسعاف واقفة عند الباب فإنك ستجزم بأن الطفل صادق وكأنك رأيت الميت، مع أن هذا إنما هو خبر طفل واحد، ولكن احتفت به قرائن.
والطفل قد يحتمل الكذب منه لكن قرينة صياح النساء ووجود الإسعاف أزال احتمال الكذب عن الطفل، ونحن في حياتنا نستخدم هذا دون أن نشعر؛ لأن الله أودع فينا العمل بهذه القرائن في كثير من أمور الحياة، فمثلاً في علم الجناية أو الجريمة يستدلون بأخبار بسيطة وبآثار معينة للمجرم حتى يجزم المحققون جزماً أن المجرم هو فلان، وعندها يحقق معه ويعترف بكل شيء، كل ذلك بأمور أودعها الله في النفس تصل بها إلى الحقائق بإمارات، وبينات بسيطة وإلا لضاعت الحقوق، إذاً نقول لهؤلاء القوم: إن الله أودع فينا هذا فنحن نعرف الحق، ونقبل خبر الواحد بالقرائن التي تحتف به فتجعله في غاية اليقين وهو خبر واحد، وقد يخلو عنها فلا نستطيع أن نرده، وذلك كأن يأتي رجل من بعيد ويقول: أنا يتيم ولا قرائن عندك فأنت ستعطيه صدقة، وتقول: جاءني يتيم فأعطيته، مع أنك لا تجزم بصدقه ولكنك عملت بكلامه فتصدقت عليه.
إذاً خبر الواحد المجرد لا نستطيع أن نجزم به لكن إذا احتفت به قرائن فإنه يجزم به، وهذا في الأخبار والأمور العادية، فإذا جئنا لعلماء الحديث ورواته ونقلته لوجدنا أن الأمر عندهم لا يشبه مجرد واحد طرق الباب علينا، بل هم أكثر الناس أمانة وضبطاً وتحرياً وعدالةً، والذين يحررون من بعدهم وينقدونهم هم الصيارفة، وكذلك علماء الجرح والتعديل أكثر الناس علماً في الدنيا، ولا يوجد على ظهر الأرض علم من العلوم تحري فيه ودقق فيه وضبط مثل علم الأسانيد عندنا، سواء أسانيد القراءات أو الحديث، فالأسانيد ضبطت ضبطاً لا يوجد له نظير عند أي أمة من الأمم على الإطلاق، فكيف بعد هذا يرد الخبر ببساطة؟! ونحن نجد إن أصحاب كل فن يستطيعون أن يجزموا بتواتر بعض الأمور وعدم تواتر بعض الأمور، وينقدح ذلك في ذهنه، فلو كنت طبيباً وجربت عدة أدوية لانقدح في ذهنك القطع بأن هذا المركب يفيد لمرض كذا، وكذلك لو جاء طبيب أو أطباء جربوا ذلك لقطعوا بما قلته وإن لم تلتق بهم، وكذلك الأخبار فلو أخبرك بحصول أمر عدة أشخاص لصدقت ذلك، وكل ذلك بالممارسة، فعلماء الحديث أقوى وأعظم في الممارسة، فإنهم ينقبون في الأسانيد ويقارنون فيما بينها، ويطابقون حديث الراوي مع أحاديث غيره، ويجعلون بعض الرواة ثقةً في كل حديثه إلا إذا حدث عن فلان، وأحياناً يكون الراوي ثقة في كل حديثه حتى عن فلان هذا إلا حديثاً واحداً عن فلان، فلهم تدقيق عجيب لا نظير له في أي علم، فسبحان الله الذي حفظ هذا الدين بهؤلاء، فهذه الآيات العظمى والبراهين القوية هي من آيات صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسخر الله تعالى لحفظ الدين والوحي هذه العقول وهذه الجهود التي لم يخدم بها كلام قط، ويأتي بعد هذا هؤلاء الضالون المضلون من المعتزلة والروافض والمتفلسفة وأشباههم فيردونها بكلمة واحدة فيقولون: هذه ظنيات، وهذه تحتمل الخطأ والصواب، وهذه لا تقبل لأنها آحاد ويردونها جملةً، فهذا كإنكار ما يتعارف عليه أهل الفنون وأهل العلوم الذين يعرفونها، بحكم علمهم بهذه العلوم والفنون، فهم يستطيعون أن يعرفوا الصحيح من الخطأ، والمتواتر من غيره في هذه العلوم والفنون.