لقد قرر الإمام
أحمد في أصول مذهبه قاعدة عظيمة وهي: أن الحديث الضعيف أقوى من الرأي المجرد، وهذا لا شك لو تأمله العاقل لعرف أنه مذهب عظيم يجب أن يفعل الناس به، فحديث ولو كان ضعيفاً خير من رأي مجرد، والرأي المجرد يخرج به الرأي والاجتهاد الذي يستند إلى آية أو حديث صحيح، وليس المقصود بالضعيف الواهي، ولا الموضوع، بل ضعيف الرواية المنجبر؛ لأن الرجل الضعيف لا يعني أنه يكذب في كل رواية، أو يخلط في كل رواية يرويها، بل المقصود بضعيف الرواية هو: من يخلط أحياناً أو لا يضبط أحياناً، فليست كل رواياته خطئاً، واحتمال صدقه وارد، وعليه فالحديث الضعيف يحتمل أن يكون في الواقع صحيحاً، وأن يكون هذا الرجل الضعيف قد حفظ هذا الحديث، وكل ما وجدنا ذلك الضعيف في أي سند نقول: ضعيف؛ لأنه كذلك، لكن ليس معقولاً أن تكون كل المائة أو الألف الحديث التي رواها كلها ما حفظ منها شيئاً على الإطلاق، فقد يكون حفظ النصف، لكن ديننا يجب أن يكون مبنياً على اليقين، ولا يجب علينا أن نعمل إلا بما ثبت، وهذا من نعم الله علينا، لكن من حيث المفاضلة لو رأينا مسألة من المسائل ليس فيها إلا حديث ضعيف ورأي مجرد، لا يستند إلى قياس جلي صحيح أو استنباط صحيح، فأيهما أولى؟ الإمام
أحمد يقول: الضعيف يقدم، لأنه لا يوجد حديث صحيح يعارضه، ولا قياس جلي مثلاً، ولا يدخل تحت عموم آخر، فليس ثَّم إلا الرأي المجرد أو الحديث الضعيف، فالحديث الضعيف يقدم، وهذا دليل على أن الوحي يقدم مطلقاً، فإن كان الأمر احتمالاً فاحتمال الوحي مقدم على احتمال الرأي، وهذا أمر يقضي به العقل السليم؛ لأننا إنما تعبدنا لله بالوحي لا بالرأي، والله تبارك وتعالى يقول: ((
قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ))[الأنبياء:45] أي: إنما ننذر ونعلم بالوحي وليس بالرأي أو الهوى.