قول الأشاعرة: إن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه سيسلم والعكس
وهنا تأتي قضية مهمة ينبغي ألا تخفى، وهي قوله: (وعند هؤلاء الذين يوجبون الاستثناء -أي: الأشعرية الكلابية -: أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً) وفي المقابل يبغض إبليس ومن ارتد عن دينه وإن كان لا يزال مؤمناً. وهذا يرجعنا إلى حقيقة المحبة عندهم، وقد يدور في ذهن بعضكم ويقول: كيف يقول ابن تيمية: إن الأشعرية الكلابية يقولون: إن الله يحب ويبغض وهم لا يثبتون صفة المحبة، ولا يثبتون صفة البغض! إذاً فالمحبة والبغض لهما معنى آخر عندهم، فهذا هو الذي اختصره الشيخ هنا، وأما شيخ الإسلام فأفاض فيه، لكن لغموضه تركه الشيخ رحمه الله، فلم يأتِ به، فالمحبة عندهم هي: إرادة الإنعام، أو إرادة الثواب، والبغض: هو إرادة الانتقام، فإذا كان الأمر كذلك فإن الله ينعم عليه، وينتقم منه باعتبار الموافاة، فإما أن ينعم عليه ويثيبه بالجنة إن وافاه بالإيمان، وختم له بذلك، وإما أن ينتقم ويعذبه على الكفر إن وافاه به، ومن هنا عرفنا العلاقة بين قولهم بالموافاة، وقولهم بأن الله يحب من كان الآن كافراً إذا كان يعلم أنه سوف يموت على الإيمان، ويبغض من كان مؤمناً الآن إذا كان يعلم منه أنه سيموت على الكفر، فالمسألة هي في الإنعام والانتقام، وهذا أمر لا يكون إلا بعد الموافاة، فتعلق الأمر به.قال الشيخ: (وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إيمانهم)، أي: حتى من كان يقاتل منهم النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ، في أحد ، في حنين ، ولكنه سوف يسلم في آخر عمره فإنه محبوب عند الله؛ لأن الله يعلم أنه سوف يسلم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان الآن على الطاعة، فيرون أن الله ينزه عن المحبة وعن البغض، والمحبة والبغض هنا على التأويل الذي ذكرناه سابقاً، أي: أنه يريد إنعامه، أو يريد الانتقام منه، وهناك مبدأ باطل بنى عليه هؤلاء نفيهم لصفات الله الاختيارية، فيقولون: إن المحبة، والرحمة، والانتقام، والغضب هي من صفات المخلوقين، فالرحمة مثلاً: هي انكسار ورقّة، والله تعالى يتنزه عن ذلك، والغضب: هو فوران وغليان الدم.. إلى آخر ما يقولون، والله يتنزه عن ذلك، وحاشى لله -في زعمهم- أن يكون هناك فعل من المخلوق، يؤثر في الخالق.فلو فعل العبد طاعة فأحبها الله وأحبه فمعنى هذا -في عقولهم ونظرهم-: أن العبد يفعل أشياء تؤثر في الله، فيقولون: إن الله تعالى أجل وأسمى من أن يتأثر بما يفعله المخلوقون، وانظر إلى هذا الفهم السقيم. وهذا يشبه إلى حد ما كلام فلاسفة اليونان ، فـأفلاطون يقول: إن الله تعالى كامل، والكامل لا يهتم بالناقص، أي: أن الله تعالى لا دخل له في هذا الكون أبداً، فالعقول العشرة هي التي تدبر الكون، فهو خلق العقل الأول، والأول خلق الثاني، والثاني خلق الثالث .. إلى العاشر، والعقل الكلي خلق النفس الكلية، والعقل الكلي والنفس الكلية يدبران الكون، وأما هو تعالى فلا يتدخل في ذلك؛ لأنه كامل.والرافضة قالوا: إن الإمام المنتظر وغيره قد فوض الله إليهم الكون، والصوفية يقولون: إن الله تعالى أعطى مفاتيح الكون والأقاليم السبعة للشيخ عبد القادر ، والشيخ أحمد البدوي ، والشيخ الرفاعي؛ فكل واحد منهم يدبر الكون، ويدبر إقليم منها، فهؤلاء أرجعوا الفلسفة اليونانية التي تقول: إن الله تعالى كامل، ولا يمكن أن يتأثر، ولا يكون له علاقة بالناقص وهو الكون، فيعطلون الله تعالى عن حكمه وتدبيره وملكه وتصريفه فهو الذي بيده الملك سبحانه وتعالى، والجاهليون كانوا يقولون إن الله هو الذي يدبر الأمر، ويحيي ويميت، وهو الرزاق، وهو الخالق، وجاء هؤلاء بكفر لم يقله أحد من قبل بسبب هذا الأصل الخبيث وهو: أن الخالق لا يتأثر بفعل المخلوق.