مسألة الاستثناء في الإيمان من المسائل التي لو أنها أخذت وطرقت من غير هوى ولا تعصب لما كان فيها هذا الخلاف، والسلف الصالح لهم فيها قولان مرويان، ولعلنا سنأتي على ذكرهما إن شاء الله بالتفصيل، فقد صح عنهم فيها مذهبان، وبكل مذهب قالت طائفة وجملة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم؛ فمنهم من يرى الاستثناء، ومنهم من لا يرى الاستثناء، فلو أن الأمر تجرد عن الهوى والتعصب لما كان فيها كبير إشكال لوضوحها، فإذا عرفت مأخذ من يقول بجواز الاستثناء، ومأخذ من يقول بعدم الجواز؛ فلا إشكال على ما سنبين إن شاء الله، لكنها أخذت مأخذ التعصب والهوى عند كثير من المتأخرين، وما دخل الهوى في شيء إلا أفسده، فما أفسده لدين الإنسان والعياذ بالله! فإذا دخل الهوى، والتعصب، والمشاحنة، والبغضاء في النفوس، ومرضت بذلك؛ فإنها لا تهتدي إلى الحق والعياذ بالله.
ففي كثير من بلدان العالم الإسلامي؛ ابتداءً من العراق ، إلى خراسان ، إلى بلاد ما وراء النهر ، هذه الأرض العظيمة الكبيرة كانت المعارك تدور فيها بين الحنفية والشافعية في مسائل منها هذه المسألة، فالحنفية كانوا على مذهب الماتريدية ، وعلى ما كان عليه الإمام أبو حنيفة ، أو ما هو مشهور عنه، واللائق به أن يكون قد رجع إن شاء الله، وهو أنه لا استثناء في الإيمان وأن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص، ولا يتفاضل، وهذا القول -إن شاء الله- سوف نوضحه فيما بعد.
فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً -ومنهم مرجئة الفقهاء - يحرمون الاستثناء، ويسمونه شكاً، فإذا قلت: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فقد شكيت، والشك كفر، فيقول الحنفية: نحن نجزم ولا نشك، والشافعية صاروا في الغالب أشعرية ، وهم يقولون: لا بد أن نقول: إن شاء الله؛ لأن الأشاعرة كلابية في هذه المسألة، فهؤلاء يوجبونه، وهؤلاء يحرمونه، فصار الحنفية يسمون الشافعية: شُكَّاكاً، حتى قال بعضهم: كيف يصح عقد زواج الحنفية من شافعي وهو يشك في إيمانه، وهذا هو الهوى والعياذ بالله.
وصار أولئك أيضاً يتهمون هؤلاء، ويطعنون فيهم بأنهم يزكون أنفسهم، وأنهم يجعلون إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل، وهذه دعوى باطلة، وهكذا قام التعصب، وحدث البغي والعدوان بين الطائفتين إلا من هداه الله، وقد وجد علماء أجلاء ترفعوا عن البغي والعدوان، والهوى والتعصب، وعرفوا الحق في هذه المسألة وهو: التفصيل، فهذا ما نريد أن نوضحه في هذه المسألة: أنها إذا أخذت مجردة عن الهوى فلا إشكال فيها.