ثم أخذ
شيخ الإسلام رحمه الله يبين كيف يكون الإنكار بالقلب والجوارح؛ يقول: "وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر وإرادته لهذا وكراهته لهذا موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين" إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على هذين الأصلين: الحب والبغض، ومنبع هذه الأمور جميعاً هو الإخلاص والمتابعة، والأمر بالمعروف ناشئ عن محبته، وإنكار المنكر ناشئ عن بغضه وكراهيته، والأصل أن تكون المحبة والبغضاء تابعة للشرع وللدين لا للهوى.
وأهل الهوى لسان حالهم يقول: إذا أعجبني إنسان لسبب ما لا أنهاه ولا آمره، وإذا كنت أبغضه لسبب ما أشهر به وأفضحه..!
يجب أن يكون الإنكار والأمر لله، فهذه من الدقائق الخفية، وأمراض القلوب دقيقة وخفية.
والهوى يدخل الإنسان في باب الظلم الذي سبق الحديث عنه، ويؤدي إلى أن يحبط العمل، فلا يقبل، إذا كان الغرض منه حظ النفس لا غيرةً لدين الله ومحارمه أن تنتهك.
فإذا ارتكب المنكر من يحابي تعلل له العلل وانتحل له المعاذير، وإذا ارتكب المنكر مَنْ تغلي له القلوب بالعداوة أو الحقد، فإنه يشهـر به ويعـاقب ويؤدب، ويقال: هذا إقامة لدين الله وتنفيذ لحد الله وحكم بشـرعه.
والحقيقة أنه في الحالين إقامة لحظ النفس وانتقام لها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، والصحابة ما فاقوا وفضلوا على الناس إلا بهـذا الخلق العظيم، وهو ترك الغضب للنفس، مع أن الإنسان لا يستطيع أن يحزم نفسه في كل وقـت، لكن عليه أن يجاهدها على ذلك.
ثم يبين
شيخ الإسلام أن إنكار المنكر إنما يكون على حسب قوة المنكر وقدرته، يقول: "وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته؛ فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها" فلا يمكن أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر إلا بحسب القدرة والطاقة.
يقـول: "فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته، فينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان" أي: فالقلب يجب أن يأمر بالمعروف أمراً جازماً كاملاً، وأن ينهى عن المنكر نهياً جازماً كاملاً، يعتقد ذلك، ويألم بقدر ما يكون فيه من الإيمان.
وحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كمال الإيمان، ولا يجوز أن ينخرم؛ لأن هذه القلوب جعلها الله مكنونة محفوظة لا يستطيع أحد أن ينالها بفضله وكرمه عز وجل، فقد يقبض على الجسد ويؤذى، لكن ما في القلب يبقى لا يُنال، وهذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، فلذلك لا يجوز للإنسان أن يشرح للمنكر صدراً أو أن يقره، بل يجب أن يغضب ويتألم ويحترق، ويدعو الله أن يزيل الشر.
قال: "وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة، وفعل العبد معها بحسب قدرته، فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل" وهذا شيء عجيب جداً، وهو من فضل الله عز وجل، وهناك أدلة كثيرة تدل على هذه القاعدة العظيمة من قواعد المعاملة بين العباد وبين ربهم سبحانه وتعالى، وهي قاعدة عظيمة نحتاج أن نعرفها وأن نتعامل مع الله من خلالها.
فمن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة}، والحديث المتفق عليه في غزوة تبوك: {إن بـالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا سلكتم شعباً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر} بعضهم مريض، وبعضهم أعمى، فكتب الله له عمل أولئك المجاهدين، وكأنه يقطع تلك الوديان والشعاب في شدة القيظ الذي فر منه المنافقون: ((وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ))[التوبة:81]؛ فالمنافقون خابوا وخسروا، وهذا له الأجر وهو جالس.
ومن خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله، ثم أدركه الموت قبل أن يصل إلى المدينة، كان له ما للمهاجرين من الأجر، قال الله تعالى: ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ))[النساء:100] وهو ما أتم الهجرة لكنه فعل ما استطاع، فوقع أجره على الله.
وأدلة هذه القاعدة كثيرة.