المادة كاملة    
يتواصل في هذا الدرس شرح حديث الشفاعة، مع بعض الاستدراكات على المصنف في شرحه لحديث الشفاعة، كما تضمن هذا الدرس ذكر أنواع الشفاعة، وما هي الشفاعات التي تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم والشفاعات التي يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين، مع بيان الفرق المخالفة لأهل السنة في موضوع الشفاعة والرد عليها، وتوضيح أنواع الشفاعات التي وافق عليها أهل البدع والشفاعات التي خالفوا فيها، وذكر أوجه مخالفتهم وأسباب ردهم لها.
  1. توجيه تعليق المصنف على حديث الشفاعة

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [والعجبُ كُلُّ العجبِ من إيرادِ الأئمةِ لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشَّفَاعَة الأولى في أن يأتي الرب تَعَالَى لفصل القضاء كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن النَّاس إنما يستشفعون إِلَى آدم فمن بعده من الأَنْبِيَاء في أن يفصل بين النَّاس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إِلَى المحز إنما يذكرون الشَّفَاعَة في عصاة الأمة، وإخراجهم من النار.
    وكأن مقصود السلف في الاقتصار عَلَى هذا المقدار من الحديث هو الرد عَلَى الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النَّار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث.
    وقد جَاءَ التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه: {أنهم يأتون آدم ثُمَّ نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ يأتون رَسُول الله محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفَحْصُ، فيقول الله: ما شأنك؟ وهو أعلم، قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقول: يارب، وعدتني الشَّفَاعَة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم فيقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: شفَّعْتُكَ أنا آتيكم فأقضي بينهم، قَالَ: فأرجع فأقف مع الناس.
    ثُمَّ ذكر انشقاق السموات وتنزل الملائكة في الغمام ثُمَّ يجيء الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحونه بأنواع التسبيح، قَالَ: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثُمَّ يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إِلَى يومكم هذا، أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، إِلَى أن قَالَ:
    فإذا أفضى أهل الجنة إِلَى الجنة قالوا: من يشفع لنا إِلَى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم إنه خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وكلمه قُبلاً، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، وذكر نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... إِلَى أن قَالَ:
    قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب، ثُمَّ استفتح فيفتح لي، فأحيى ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة، فنظرت إِلَى ربي عَزَّ وَجَلَّ خررت له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثُمَّ يقول الله لي: ارفع يا مُحَمَّد واشفع تشفع وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي قال الله -وهو أعلم-: ما شأنك؟
    فأقول يارب وعدتني الشَّفَاعَة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عَزَّ وَجَلَّ: قد شفعتك وأذنت لهم في دخول الجنة}
    ...
    الحديث رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي وغيرهم] إهـ.

    الشرح:
    لم أرَ وجهاً لتعجب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من الحديث الذي رواه البُخَارِيّ ومسلم وأَحْمَد، وهو قوله: {يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثُمَّ يقول بعض النَّاس لبعض: ألا ترون إِلَى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إِلَى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إِلَى ربكم؟ فيقول بعض النَّاس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم ثُمَّ نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، وفي الرواية الأخرى: {عندما يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ النَّاس من الغم والكرب والضيق ما لا يحتملون}.
    ومن هذا الموقف العظيم تجأر الخلائق إِلَى الأَنْبِيَاء وتفزع لتطلب منهم أن يشفعوا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه هي الشَّفَاعَة الأولى في هذا الموقف للفصل بين النَّاس في أمر الحساب، سواء منهم من يستحق الجنة فيدخلها، أو من يستحق النَّار فيدخلها، فالقضية ليست شفاعة خاصة بأهل الجنة ولا شفاعة خاصة لإخراج العصاة من النَّار وإدخالهم الجنة، كما هو ملاحظ من السياق.
    فقول المصنف: [لا يذكرون أمر الشَّفَاعَة الأولى في أن يأتي الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء كما ورد في حديث الصور] هذا الكلام صحيح، فهم لم يذكروا أول الحديث أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبدأ الحشر بالنفخ في الصور، ثُمَّ يأتي الكروبيون والملائكة، وليس في هذا مطعن في أنهم لم يذكروا الشَّفَاعَة الأولى، وإنما لم يأتوا بأول المحشر.
    والواقع أنه لم يرد في وصف المحشر حديثاً صحيحاً كاملاً من أوله إِلَى آخره، وإنما الذي حصل أن بعض الوعاظ جمعوا كل ما ورد في الأحاديث وركبوا منها قصة واحدة وجعلوها كأنها حديث واحد.
    وسوف يأتي إن شاء الله تَعَالَى أحاديث عن أنس بن مالك وأبي سعيد رضي الله عنهما وغيرهما تدل عَلَى إخراج عصاة المؤمنين أهل التوحيد من النَّار وإدخالهم الجنة، وهي أحاديث صحيحة رواها الشيخان وقد روى الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ كثيراً من هذه الأحاديث وكذلك رواها غيره من الأئمة الحفاظ، والسبب في عدم ورود حديثاً كاملاً صحيحاً من أوله إِلَى آخره -والله أعلم- أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحدث أصحابه حديثاً واحداً في المحشر بأكمله، وإنما كَانَ يحدثهم ببعض ما سيحصل في المحشر كما في هذا الحديث، الذي أوله:{أتي بلحم فدفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة} وذكر فيه أمر شفاعته {وأنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ}، وفي حديث آخر ذكر صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوضه، وفي حديث ثالث ذكر الميزان، وفي حديث رابع ذكر دخول أهل الجنة الجنة وفي حديث خامس ذكر شفاعته لـأبي طالب، وهكذا.

    فأحاديث يَوْم القِيَامَةِ كآيات يَوْم القِيَامَةِ، فهي متفرقة في سور متعددة وفي كل سورة نجد مشهداً وموقفاً وحدثاً قد يرى أنه يختلف عن الآخر، وما ذلك إلا لعظمة هذا اليوم وسعته وكثرة ما فيه من الحوادث والوقائع والأهوال، وكذلك تأتي في السنة أحاديث متفرقة كل حديث فيه مشهد من مشاهد يَوْمَ القِيَامَةِ، فالأحاديث الصحيحة التي وردت ليس فيها حديثاً كاملاً من أوله إِلَى آخره يصف اليوم من أول النفخ في الصور إِلَى آخر شيء من أمور الشَّفَاعَة.
    حديث أَبِي هُرَيْرَةَ هو من أكمل الأحاديث وأطولها، وأما هذا التعليق فلعل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ نقله عن إمام آخر، وكأنه من كلام ابن القيم ولم أتمكن من التحقق من ذلك، أو لم ينقله ابن القيم تعقيباً عَلَى هذا الحديث، وإنما تعقيباً عَلَى اقتصار بعض العلماء عَلَى إثبات الشَّفَاعَة الأخيرة وعدم إتيانهم بأول الحديث، والله أعلم.
    ثُمَّ يقول المصنف: [فإذا وصلوا إِلَى المحز إنما يذكرون الشَّفَاعَة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار] وهذا ليس في هذا الحديث؛ بل هو في الشَّفَاعَة العظمى، ثُمَّ يقول: [وكان مقصود السلف في الاقتصار عَلَى هذا المقدار من الحديث هو الرد الخوارج، ومن تابعهم من المعتزلة] والواقع أن التعميم بالسلف لا ينبغي؛ لأنهم لم يقتصروا عَلَى هذا اللفظ، كما في روايات الصحيحين وغيرها، وإنما قد يكون بعض العلماء الذين أرادو الرد عَلَى الخوارج اقتصروا عَلَى ذلك؛ لكن التعميم لا ينبغي؛ فضلاً عن أن يتعجب من ذلك الفعل؛ لأنه إذا كَانَ المقصود بالسلف هنا علماء الحديث، فليس من عادتهم كلهم اختصار الحديث للرد عَلَى أهل البدع.
    والبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ يذكر الحديث مجزأً وقد يختصره بحسب الأبواب وهذه طريقته في صحيحه، لكن الإمام مسلم والإمام أَحْمَد وأبو داود الطيالسي وغيرهم من أصحاب السنن لا يختصرون الحديث بقصد الرد، وإنما يأتون في الغالب بالحديث كاملاً، فإن كَانَ قصده أئمة الحديث فليس بصحيح، وإن كَانَ قصده الأئمة الذين كتبوا في الرد عَلَى أهل البدع فاقتصارهم عليه أيضاً لا يطعن في أهل الحديث أو في عملهم أو ينتقدون من أجله.
    فكان ينبغي للمصنف هنا أن يفصل ذلك فَيَقُولُ: وقد ورد في الصحيحين وغيرهما كاملاً، ولكن بعض الأئمة الرادين يقتصرون عليه، ولم يفعل المُصنِّفُ هذا، بل أتى برواية الصحيحين، ثُمَّ يأتي بعد ذلك بالحديث الذي يظن أنه حديثاً كاملاً، والحق أن الحديث الذي ذكره فيه ضعف، ففيه اضطراب في متنه، بل فيه أيضاً شذوذ كما سنبين ذلك إن شاء الله.

    وأما الرد عَلَى الخوارج والمعتزلة ومن تابعهم من الذين أنكروا خروج أحد من النَّار بعد دخولها: فإنكارهم كاذب والرد عليهم حق وقد فعله السلف والأئمة رضوان الله تَعَالَى عليهم وممن فعل ذلك الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ وكذلك الإمام مسلم كما تدل بذلك تراجم هذه الأحاديث، ثُمَّ قال رَحِمَهُ اللهُ: [وقد جَاءَ التصريح بذلك في حديث الصور ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله...].
    1. تحقيق حديث الشفاعة

      أخذ المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يذكر الحديث، والحديث ضعيف كما قال الشيخ ناصر: "ضعيف أخرجه ابن جرير في تفسيره -كما ذكره المصنف- من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً وإسناده ضعيف؛ لأنه من طريق إسماعيل بن رافع المدني عن يزيد بن أبي زياد وكلاهما ضعيف، بسندهما عن رجل من الأنصار وهو مجهول لم يسم.
      وقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/248، 4/63): إنه حديث مشهور... إلخ، لا يستلزم صحته كما لا يخفى عَلَى أهل العلم.

      والمقصود أن هذا الحديث وأمثاله ليست ثابتة فيما روي في وصف المحشر كاملاً ولكنها مركبة، وقد تكون مركبة من أحاديث صحيحة، وأحاديث ضعيفة.
      فقول المصنف: [لكن من مضمونه أنهم يأتون آدم ثُمَّ نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى، ثُمَّ يأتون رَسُول الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيذهب -يعني رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفَحْصُ، فيقول الله تعالى: ما شأنك؟ -وهو أعلم- قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقول: يارب! وعدتني بالشَّفَاعَة فشفعني في خلقك فأقض بينهم] هذا المضمون يتفق مع الحديث الأول، وليس إِلَى هنا أي تعارض، لكن بعد ذلك يأتي ما يدل عَلَى أن متن هذا الحديث يخالف متن الأحاديث الصحيحة.
      يقول: [فيقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم قَالَ: فأرجع فأقف مع الناس، ثُمَّ ذكر انشقاق السماوات، وتنـزل الملائكة في الغمام، ثُمَّ يجيء الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح، قَالَ: فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه].
      ومعنى هذا: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يأت بعد لفصل القضاء عندما سجد الرَّسُول في أول مرة، فيكون عَلَى هذا: أن النَّاس ذهبوا إِلَى آدم، ثُمَّ إِلَى نوح، ثُمَّ إِلَى إبراهيم، ثُمَّ إِلَى موسى، ثُمَّ إِلَى عيسى، ثُمَّ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذهب إِلَى تحت العرش، فسجد وخاطبه ربه وقَالَ: أنا الآن سآتي لفصل القضاء، ثُمَّ تنشق... فإذا كَانَ السجود تحت العرش قبل أن يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء.
      إذاً: فأي مكانٍ يسجد فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره، فهو ساجد تحت العرش ضرورة، لأن العرش فوق المخلوقات وهو أعظمها أو أكبرها، فلا اختصاص إذاً.
      والروايات الصحيحة الثابتة تدل عَلَى أن ذلك إنما يكون بعد أن يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للحساب ولكن لا يفصل بينهم؛ بل كما قال الأنبياء: (إن ربنا غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)، هذا هو الذي يتفق مع الأحاديث الصحيحة، والاضطراب والشذوذ يعرف في قوله: {فإذا أفضى أهل الجنة إِلَى الجنة قالوا: من يشفع لنا إِلَى ربنا فندخل الجنة، وهذه شفاعة أخرى فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم عَلَيْهِ السَّلام إنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمة قبلاً، فيأتون آدم: فيطلبون ذلك إليه وذكر نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
      وهذا اضطراب آخر، فالنَّاس بعد أن يطلبوا من آدم عَلَيْهِ السَّلام أن يشفع لهم الشَّفَاعَة العظمى فيعتذر، ثُمَّ يعتذر نوح، ثُمَّ يعتذر إبراهيم، ثُمَّ يعتذر موسى، ثُمَّ يعتذر عيسى عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فلما يعتذروا كلهم يفض الموقف، ولم يبق إلا أن يدخل أهل الجنة الجنة، فكيف يأتون إِلَى آدم من جديد وقد اعتذر من الأصل؟
      فالمقتضى -لو كَانَ بغير حديث- أنهم يأتون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو الواقع لأنا نجد بعد ذلك أن المُصنِّف نفسه يذكر أن من الشفاعات شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الجنة أن يدخلوها، فذكر ذلك، والأدلة عليه، فهذا إذاً هو المختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الأليق: أن النَّاس بعد ذلك يأتون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      أما من اعتذر في الأول فكيف يرجعون فيأتونه مرة أخرى، ثُمَّ بعد ذلك يستمر الحديث وكأنه قطعة من الحديث الصحيح الثابت أولاً، فبهذا يتبين لنا أن المُصنِّف -رحمه الله تعالى وغفر لنا وله- قد أخطأ فيما أورده من تعليق عَلَى هذا الحديث، وليس وجهة نظره فيما يبدو لنا بمكان من الصواب والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.
  2. شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [النوع الثاني والثالث من الشَّفَاعَة: شفاعته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إِلَى النَّار أن لا يدخلوها.
    النوع الرابع: شفاعته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كَانَ يقتضيه ثواب أعمالهم، وقد وافقت المعتزلة عَلَى هذه الشَّفَاعَة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات، مع تواتر الأحاديث فيها.
    النوع الخامس: الشَّفَاعَة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن حين دعا لهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث مخرج في الصحيحين.
    النوع السادس: الشَّفَاعَة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه، ثُمَّ قال القرطبي: في التذكرة بعد ذكره هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)) [المدثر:48] قيل له: لا تنفعه في الخروج من النَّار كما تنفع عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة.
    النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أنا أول شفيع في الجنة}.
    النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النَّار فيخرجون منها، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث، وقد خفي علم ذلك عَلَى الخوارج والمعتزلة فخالفوا في ذلك جهلاً منهم بصحة الأحاديث وعناداً ممن علم ذلك واستمر عَلَى بدعته، وهذه الشَّفَاعَة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً، وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] إهـ.

    الشرح:
    بعد أن ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى الشَّفَاعَة الأولى، وهي الشَّفَاعَة العظمى في أن يأتي الرب لفصل القضاء بين الناس، ذكر بعد ذلك بقية الشفاعات.
    وأهم ما ينبغي أن نعلمه هنا أن المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ ذكر هذه الأنواع للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصل الكلام هو في حقه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه ذكر قول الإمام الطّّحاويّ [والحوض الذي أكرمه الله تَعَالَى به غياثاً لأمته حق] أي: للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قال بعد ذلك: [والشَّفَاعَة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار] فكلام الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ هو عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط.
    والمصنف هنا تبعه في ذلك وذكر هذه الشفاعات الثمان منسوبة إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أنه قال في الشَّفَاعَة الثامنة: [وهذه الشَّفَاعَة يشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً] أي: إخراج العصاة من النَّار وإدخالهم الجنة، وهذا الكلام ثابت وصحيح والأدلة عليه ستأتي إن شاء الله ومنه حديث الجهنميين، ولكن قد يفهم من كلام المُصنِّفُ أن هذه الشفاعات خاصة بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الشَّفَاعَة الثامنة. فهل هذا صحيح؟
    1. هل الشفاعات : الثانية والثالثة والرابعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم أم يشاركه فيها غيره

      الواقع أن النوع الأول: -الشَّفَاعَة العظمى- خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مراء في ذلك ولا نزاع فيها بين الأمة؛ لأن الرسل الكرام يتخلون عنها ابتداءً بآدم، وانتهاءً بعيسى عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
      أما الشَّفَاعَة الثانية: وهي شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع لهم فيدخلون الجنة.
      والشَّفَاعَة الثالثة: وهي في أقوامٍ رجحت سيئاتهم عَلَى حسناتهم فاستحقوا بذلك دخول النَّار فيشفع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم ليدخلوا الجنة ويعاملون كما لو كانت حسناتهم هي الراجحة.
      والشَّفَاعَة الرابعة: وهي شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم من أهل الجنة في درجة دنيا من الجنة أن يرفعهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى درجة عليا لا تبلغها أعمالهم، ولكن يبلغونها برحمة الله ثُمَّ بشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، هذه ثلاثة أنواع.

      وإذا تأملنا في هذه الأنواع لا نجد وجهاً يدل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختص بها دون غيره، وإن كَانَ بعض العلماء ينصون عَلَى ذلك -يعني عند شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة- الحقيقة أنه لا يوجد دليل ثابت عَلَى خصوصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فلا يمنع أن يشفع الشهداء والملائكة والصالحون في هَؤُلاءِ النَّاس من باب الأولى، وذلك إذا كَانَ الأَنْبِيَاء والملائكة والصالحون من المؤمنين، يشفعون فيمن دخل النَّار أن يخرج منها، فأيهما أحق بالشَّفَاعَة؟
      أليس الذي لم يدخل النَّار أولى أن يشفع فيه غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ومع هذا فإنه لم يثبت دليلٌ في اختصاص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده بذلك، وقد حصل خلاف بين العلماء الذين نقلوا أو تكلموا في الخصائص، فبعضهم يجعلها من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعضهم لا يجعلها.
      والذي يتبين لنا من عموم الأحاديث أن ذلك ليس خاصاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    2. النوع الخامس : اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها دون غيره

      بعد أن يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشْفَعْ تُشفَّعْ، فَأَقُولُ: يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، فيُقَالَ: أَدْخِلْ من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء النَّاس فيما سواه من الأبواب}، وبهذا يتبين أن هذه الشَّفَاعَة خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنها تعد وكأنها جزء من الشَّفَاعَة العظمى، فهذه تختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ما يترجح، وذكر المُصنِّف استشهاداً لها بحديث عكاشة بن محصن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
    3. النوع السادس : شفاعته في عمه أبو طالب

      وأما النوع السادس: فشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه فهذه الشَّفَاعَة خاصة له من جهتين: الأولى: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يشفع، ولا يشفع أحد من النَّاس في قريبه المشرك.
      والجهة الثانية: أنه ليس هناك مشرك يخرج من النَّار بإطلاق ولا يخفف عنه لا بشفاعة شافع ولا برحمة من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لأن رحمته تَعَالَى أعظم وأشمل من شفاعة الشافعين كما في حديث الجهنميين، حتى أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، يحاول ويريد يَوْمَ القِيَامَةِ أن يدخل أباه الجنة، ولا يدخل النار، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انظر إِلَى موضع قدمك، فينظر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام إِلَى موضع قدمه، فإذا هو ملطخ بالدماء فعندما ينظر في هذا الدم يقذف بأبيه في النَّار نسأل الله العفو والعافية.
      فلم تقبل شفاعة الخليل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام وهو خليل الرحمن في أبيه، ولا يكون ذلك إلا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الشَّفَاعَة شبيهة بالشَّفَاعَة العظمى في أنها واضحة الاختصاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحديث أبي طالب هذا رواه الشيخان، ولفظ مسلم: {أن العباس بن عبد المطلب أخا أبي طالب سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: يا رَسُول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كَانَ يحوطك ويحميك؟ يعني: هل من مقابل لتلك الحماية والنصرة للدعوة، بل إن أبا طالب حوصر في الشعب وجعل نفسه مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل بقية المؤمنين وهو ليس منهم فقَالَ: رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم هو في ضحضاح من النَّار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النَّار}
      .
      وفي الرواية الأخرى قَالَ: {له شراكان من النَّار يغلي منهما دماغه وهو يظن أنه أكثر أهل النَّار عذاباً} -نسأل الله العفو والعافية- فهو مخفف عنه بالنسبة إِلَى حال جميع الْمُشْرِكِينَ، ومع ذلك يظن من شدة حر النَّار -عافانا الله من حرها- أنه أعظم أهلها عذاباً، فهذه خاصة مستثناة إكراماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخصوصية لـأبي طالب لما قام به من حماية الدعوة وهذه الشَّفَاعَة مستثناة من قوله تعالى: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ)) [المؤمنون:101].
      وبما ورد من النهي عن الاستغفار للمشركين كما قال تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى))[التوبة:113] فالاستغفار للمشركين، لا يجوز وإنما الذي جاز وورد فقط هو هذه الشَّفَاعَة ((وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه))[التوبة:114] وهذا هو الذي حصل، لكن في يَوْمِ القِيَامَةِ يأخذ الحزن والأسى قلب الخليل عَلَيْهِ السَّلام ويحاول أن يخاطب ربه عَزَّ وَجَلَّ في أبيه.

      والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاطب ربه في عمه أبي طالب فتكون من الخصوصية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعمه الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها، إلا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يوفقه لأن يشهد شهادة الحق عند الموت وفي ذلك حكمة عظيمة وآية بالغة لمن أراد أن يتذكر ولمن أراد أن يتفكر في هذه العبرة، والقصد أن هذه الشَّفَاعَة واضحة أنها من خصوصياته.

      وأما القوم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهَؤُلاءِ هم -كما فسرهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أهل الأعراف، فقد قال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أما السابقون بالخيرات فيدخلون الجنة برحمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى"، وهم الذين قال الله تَعَالَى فيهم لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قَالَ: أمتي أمتي: {أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من الجنة} ثُمَّ قَالَ: [[وأما المقتصدون -أو أهل الأعراف- من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيدخلون الجنة بشفاعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] وهَؤُلاءِ أهل الأعراف يمكثون عَلَى مكان بين الجنة والنَّار فيها أشجار وماء فيشفع فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدخلون الجنة، وكما أسلفنا سابقاً: أنه لا يمتنع أن يشفع فيهم غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      ثُمَّ قال المصنف: [وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إِلَى النَّار ألاَّ يدخلوها] وهذا أيضاً كما سيأتي في حديث الجهنميين ثابت، وحق لمن دخل النَّار أن يخرج منها، فأولى منه ذلك الذي لم يدخلها بعد.
    4. موافقة المعتزلة في الشفاعة في رفع درجات المؤمنين !!

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى: [وقد وافقت المعتزلة على هذه الشَّفَاعَة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات] إن كَانَ يقصد المُصنِّف رحمه ما عدا الأولى فلا بأس، وإن كَانَ يريد أن هذا عَلَى الإطلاق فنستدرك عليه ونقول: بل وافقوا أيضاً عَلَى الشَّفَاعَة الأولىفيكون الذي وافقت عليه المعتزلة: الشَّفَاعَة الأولى والرابعة.
      والسبب في ذلك: أنهم لا يريدون أن يخالفوا ما أصلوه وقرروه في حق أهل الكبائر والمعاصي، وأنه يجب -والعياذ بالله- عَلَى الله أن يعاقبهم -تعالى الله عن ذلك- فهاتان هما الشفاعتان اللتان وافقت المعتزلة فيها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

      ثُمَّ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [النوع الخامس: وهي الشَّفَاعَة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن حين دعا له رَسُول الله أن يجعله الله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب].
      وصفة هَؤُلاءِ السبعين ألفاً: أنهم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
      وهل هم فقط سبعون ألفاً؟
      صح أن مع كل واحد منهم سبعون ألفاً وهذا من فضل الله ومن رحمته وكرمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      والنوع السادس: هو ما أشرنا إليه في الشَّفَاعَة الخاصة لـأبي طالب، ثُمَّ يقول: قال القرطبي في التذكرة -بعد ذكر هذا النوع- "فإن قيل: فقد قال تعالى: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))[المدثر:48] أي: لا تنفع الْمُشْرِكِينَ والكفار، كما في أول الآيات: ((فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)) [المدثر:40-47] ما حكمهم؟
      قَالَ: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)) [المدثر:48] فيقول القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قيل: فقد قال الله تعالى: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)) قيل له: لا تنفعهم في الخروج من النار، كما تنفع عصاة الموحدين" فالكفار لا تنفعهم الشَّفَاعَة في أن يخرجوا من النار، وكذلك أبو طالب، لا يخرج من النار، وإنما الشَّفَاعَة في حقه هي في تخفيف العذاب عنه فقط، فالآية إذاً عَلَى عمومها ثُمَّ قَالَ: "لا تنفعه في الخروج من النَّار كما تنفع عصاة الموحدين الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة".
    5. النوع السابع : الشفاعة في دخول المؤمنين الجنة

      هذا النوع السابع من أنواع الشَّفَاعَة وهو: [شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أنا أول شفيع في الجنة}].
      ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا أول شافع وأول مشفع}.
    6. هل جبريل أول من يشفع؟

      وهذا الحديث فيه رد عَلَى ما يذكره بعض النَّاس من أن أول الشافعين هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام، ويستدلون عَلَى ذلك بحديث ضعيف (إن أول من يشفع جبريل)، لكن هذا الحديث مردود بالأحاديث الصحيحة: {أنا أول شافع وأول مشفع} أو: {أنا أول شفيع في الجنة}، فأول شفيع وأول مشفع هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتقدمه عَلَى ذلك، لا جبريل ولا أحد من الخلق إطلاقاً.
    7. النوع الثامن : وهو معترك الخلاف

      الأنواع السابقة من أنواع الشَّفَاعَة ليست هي التي جرى فيها الخلاف بين الأمة، وإنما أكثر ما وقع الخلاف والإشكال والتنازع فيه هو في النوع الثامن، وهذا هو المحل الذي ذكر العلماء لأجله موضوع الشَّفَاعَة في كتب العقيدة وكرروا ذلك لأهميته بالنسبة للرد عَلَى أهل البدع، ولا يزال أهل البدع إِلَى اليوم ينكرون هذا النوع، وهو شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النَّار أن يخرجوا منها.
      فـالشيعة بجميع أصنافها: الإمامية والجعفرية، والزيدية هم عَلَى منهج المعتزلة واتفقوا في ذلك مع الخوارج على ما بينهم من خلاف، كل هَؤُلاءِ متقدموهم ومعاصروهم إِلَى اليوم ينكرون الشَّفَاعَة لأهل الكبائر وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يأذن لأحد أن يشفع في أهل الكبائر فيخرجون من النَّار
      ، قال المصنف: [وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث].
    8. سبب رد هذا النوع من الشفاعة

      وقد خفي علم ذلك عَلَى الخوارج والمعتزلة فخالفوا في ذلك وعلل المُصنِّف ذلك بأمرين:
      الأول: جهلاً منهم بصحة الأحاديث، وهذا ينطبق عَلَى بعض من خالف في ذلك حتى بعض السلف من التابعين وغيرهم، قبل أن يتبين لهم وجه الصواب ووجه الحق.
      والوجه الآخر: هو العناد والمكابرة، وقد دار النـزاع والنقاش بين المعتزلة وبين أهل السنة منذ القرن الثاني، وتكلم السلف في أمر الشَّفَاعَة ثُمَّ صنفوا فيما بعد مصنفات في إثبات ذلك والرد عليهم، فما بقي للمعتزلة ومن حذا حذوهم إلا العناد نسأل الله العفو والعافية.
      فقالوا: هذا يخالف مقتضى العقل؛ لأن العقل يقتضي ويوجب معاقبة من فعل المعصية، كما يوجب أيضاً إثابة من فعل الطاعة، ومن المعلوم من عموم الآيات والأحاديث أن إدخال المؤمنين الجنة فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمعاملة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للمؤمنين معاملة الفضل ومعاملة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للمجرمين وللعصاة هي معاملة العدل، وكرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورحمته سبقت غضبه، كما ذُكِرَ ذلك في الحديث الصحيح.
      فلهذا لا أحد يحجر عَلَى رحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن يخرج العصاة الموحدين وأن يقبل فيهم شفاعة الشافعين، وأما أهل النَّار الذين هم أهلها، أي: الكفار والمُشْرِكُونَ، فهَؤُلاءِ دلت الآيات من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أنهم لا يخرجون منها أبداًويناسب هذا المقام أن نتعرض للحديث الذي ذكره المُصنِّف وهو قوله: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي}.
    9. تحقيق حديث : ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )

      حديث {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} سبق أن قلنا: إن هذا الحديث كل طرقه تقريباً ضعيفة، ولكن بعض العلماء قَالَ: هو بمجموع طرقه يتقوى ويصح، وبعضهم يقول: هو ضعيف، ومن قَالَ: إنه ضعيف، فهو إما أنه لم يجمع طرقه، أو رأى أن طرقه ولو اجتمعت فهي كلها ضعيفة؛ لكن معناه صحيح وحق وهو أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته، كما سيذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البُخَارِيّ والذي سوف نتعرض له بإذن الله في ما سيأتي..