فكثير من طلبة العلم إذا عرض لهم ذلك ردوه، وربما كانوا في الحقيقة -وإن لم يقصدوا ذلك- متبعين لأهل الأهواء، فأهل الأهواء شأنهم وعملهم أن يضربوا النصوص بعضها ببعض، فإذا كان الرجل قدرياً -أي: ممن ينفون القدر- فإنه يرد كل حديث يظن أنه يُثبت الجبر، ويؤيد مذهب الجبرية، كما يرد المعتزلة وأشباههم الحديث الصحيح الثابت في احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، فقالوا: نرد هذا الحديث؛ لأن فيه احتجاجاً بالقدر، فآدم عليه السلام يقول لموسى: (كيف تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين ألف سنة)، وهذا احتجاج بالقدر، وهذا جبر.
فنقول لهم: فكروا في معناه وتأملوا، وكذلك تجد الجبري أيضاً كل حديث أو آية تثبت أن أعمال العباد تسند إليهم على الحقيقة، وهذا موجود في القرآن، فالقرآن كله عندما يذكر أفعال العباد فإنه يسندها إليهم، فتجد فيه: بما كنتم تعملون، كفرو، كذبوا، آمنوا: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ))[المائدة:38]، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) وقوله: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه))[الزلزلة:7-8]، فالأعمال يذكرها الله تبارك وتعالى مسندة إلى العاملين، لكن الجبرية يقولون: إن العامل والفاعل الحقيقي لها هو الله، والعبد مجبور على أفعاله.
فنقول لهم: لقد خالفتم كل هذه الأدلة مع وضوحها، وقد استدلوا على الجبر بنصوص وأدلة مشتبهة اشتبهت عليهم، فقد أخذوا بقوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))[الأنفال:17]، وردوا كثيراً من الآيات كما ذكرنا، فنقول لهم: خذوا بالآيات الكثيرة، وافهموا هذه الآية على وجهها، فقوله: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) المقصود بها: وما أصبت إذ رميت؛ لأن الرمي لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمباشرة عمل يسير لا يؤدي عادة إلى ذلك التأثير الذي وقع في المشركين، فلو أن أحداً غيره صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من التراب ورمى بها المشركين فإنه لا يؤثر فيهم كتأثيره صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي رمى فجعل هذه الرمية أوسع وأعظم تأثيراً، وهذا خاص بهذا الفعل لأنه آية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يعمم هذا على كل الأفعال.