قول الشارح رحمه الله تعالى: (ويندفع أيضاً -أي: بما تقدم- تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم، أو أسلم ولم يؤمن في الدنيا والآخرة) أي: أنكم يا أهل السنة ! تقولون: إن الإسلام غير الإيمان، فنسألكم: ما حكم من آمن ولم يسلم، أو نقول: ما حكم من أسلم ولم يؤمن في الدنيا أو في الآخرة؟ فإن قلتم: هما سواء ولا فرق بينهما؛ فهم مسلمون مؤمنون، وهم من أهل القبلة، وهم الموحدون، وهم الموعودون بالجنة؛ قلنا لكم: إذاً فلماذا تفرقون بين المسلم والمؤمن؟! فهذا دليل على أن قولكم بالمغايرة باطل، وأن ما نقوله نحن -أي: المرجئة - من الترادف هو الحق، فمن أثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلانه.
ويمكن الجواب على هذا قبل الدخول فيما ذكره الشارح من مقابلة التشنيع بتشنيع، أو مقابلة اللازم؛ فنقول لهم: نعم هناك ما يتفق فيه الاثنان، ولكن هناك أيضاً ما يختلفان فيه، فإذا قلنا: فلان مؤمن، وفلان مسلم وعنينا بذلك عصمة الدم والمال وغيرهما من أحكام الدنيا؛ فلا شك أن الحكم واحد، لكن لا يعني ذلك أننا عبرنا بتعبيرين مترادفين، فكلاهما معصوم الدم والمال، وكلاهما من أهل القبلة، وكلاهما له مالنا وعليه ما علينا؛ لكن ليس هذا دليلاً على أن التعبير واحد، فإذا قلنا: فلان آمن؛ فإننا نعني: أنه أسلم وحسن إسلامه، فدخل في الإسلام عن يقين وإخلاص، وعن اعتقاد جازم، وعن تجرد من كل ما كان يعتقده قبل أن يهديه الله، ويشرح صدره للإسلام.
وإذا قلنا: فلان أسلم؛ فهو أقل من ذلك، أي: أنه رجل حدث عن دين الله تعالى الحق فقبله، وأظهره، وأعلنه، فنقول في حق هذا: أسلم، ونقول في حق ذاك: آمن، إذاً فهناك فرق؛ وإن كانت أحكام الدنيا واحدة من جهة: أن له ما لنا، وعليه ما علينا إلى آخر ما تقدم.
وكذلك في الآخرة؛ فإذا قيل: فلان مات على الإيمان، وفلان مات على الإسلام؛ فالمعنى قد يكون واحداً إن أريد أنهما لم يموتا على ملة أخرى من ملل الكفر، وقد يطلق ذلك ولا يلزم منه الترادف، بل يكون لهذه العبارة معنى، ولتلك العبارة معنى آخر، فإذا قيل: مات فلان على الإيمان، أو إنه من المؤمنين الموعودين بالجنة، أو إن صفاته صفات المؤمنين؛ سواء قال هذا القول أحد من الناس وهو يعلم حال ذلك الإنسان على سبيل التزكية له مثلاً، أو كان الأمر أوضح من ذلك كأن يكون هذا القول جاء في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، فهناك فرْق بين هذا وهذا، فمن قيل فيه: إنه مات على الإيمان؛ فهو أفضل ممن قيل فيه: إنه مات على الإسلام.
إذاً فهناك فرق، فكيف تقولون: يلزمنا أن نسوي بينهما، فإن لم نفعل ذلك كان قولنا باطلاً! فنثبت لهذا ما لا نثبت لذلك، وهو الفرق في صفة الإيمان، فهي أكمل، وإطلاقها يقتضي المدح والتزكية لصاحبها، وأما صفة الإسلام فهي أقل.
بل إننا -كما عرضنا فيما مضى- نجد أن الله تبارك وتعالى قد فرق في القرآن بين نوعين من المرتدين، فقد ذكر عن طائفة أنهم كفروا بعد إيمانهم، وذكر عن طائفة أخرى أنهم كفروا بعد إسلامهم، وهذا دليل على الفرق بينهما، فليس هؤلاء هم هؤلاء، فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة هناك من الناس من آمن به حقاً عن صدق وليس عن كذب، ولم يكن ممن أخبر الله تعالى عنهم أنه ممن قال: نشهد إنك لرسول الله كذباً، بل كانوا مؤمنين عن حق واعتقاد، ولكنهم انحرفوا وارتدوا على أعقابهم، وبدلوا فيما بعد إما بتأثير اليهود ، وإما بتأثيرات ووساوس من الشيطان، وإما بتأثير إخوانهم المنافقين من قبيلتهم أو أقربائهم.. إلى غير ذلك، فهذا يقع، فكلما قوي عود الإسلام واشتد وصلب؛ ازداد حنق المنافقين وكيدهم ومكرهم، فيأتون إلى قوم آمنوا في أول قدوم النبي صلى الله عليه وسلم كي يحرفوهم عن هذا، فيكون هذا النوع ممن كفر بعد إيمانه.
وأما النوع الآخر: فهو من كفر بعد إسلامه؛ فهم الذين أسلموا ظاهراً ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، فقد انحرفوا كما انحرف أولئك، فلا غرابة أن ينحرف هؤلاء؛ فقد انحرف من هو أعلى درجة منهم، وهم الذين كانوا في مرتبة ومنزلة الإيمان.
إذاً فهناك فرق في أحكام الدنيا وأحكام الآخرة بين المؤمنين والمسلمين.