المرتبة الرابعة كما يقول المؤلف: [الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين كقوله تعالى: ((
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ))[غافر:3]] أليس غافر الذنب هو الله، وقابل التوب هو الله؟ ولكن عطف هذا على هذا لتنوع الصفتين، وإن كانت الذات الموصوفة بهما واحدةً، كما يطلق على الرسول الصادق، والأمين، البشير، والنذير، والماحي، والعاقب، والحاشر، وكلها صفات لموصوف واحد، فهو صلى الله عليه وسلم الشاهد والمبشر والنذير، وكذلك قوله تعالى في وصف يحيى عليه السلام: ((
وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ))[آل عمران:39] ونحن في كلامنا نقول: محمد هو الشجاع والبطل والكريم، وهو الإمام والمؤذن، وهو شخص واحد، ومثله: لو قلت: فلان هو البائع والمشتري وتقصد أنه هو الذي قامت فيه الصفتان: البيع والشراء، ويقال: هو الخطيب والشاعر، وهو الموظف والتاجر، أي: لديه عملان وهكذا يكثر عطف الصفات وإن كان الموصوف واحداً.وبالمناسبة حينما نقول: ((
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ))[غافر:3] وهنا سر أو نكتة بلاغية وليس الأمر هنا مجرد تكرار، فغافر الذنب صفة لله؛ لأنه يغفر الذنب للعبد وإن لم يتب، وقابل التوب أي: ممن تاب، وهناك من يفسرون الآية بأن غافر الذنب وقابل التوب تكرار؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: ((
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ))[طه:82].إذاً: غافر الذنب لمن تاب، وقابل التوب ممن تاب، فيصير المعنى واحداً، والذي قال هذا هم
الخوارج و
المعتزلة ؛ لأن من مات عندهم من غير توبة فهو خالد مخلد في النار، ولكن تسميه
الخوارج كافراً، وتقول
المعتزلة : هو في منزلة بين المنزلتين، فقد اتفقوا في الحكم وهو التخليد في النار، واختلفوا في الاسم في الدنيا، وهذه الآية يجعلونها دليلاً لهم، فيقولون: معنى غافر الذنب، أي: لمن تاب، وقابل التوب ممن تاب، ولو جعلوا للآية معنيين لكان المعنى: يغفر الذنب من غير توبة، ويقبل التوبة ممن تاب، وهم فروا من هذا واستدلوا بقوله تعالى: ((
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ))[طه:82]، ولا تعارض بين هذه الآية وآية غافر؛ لأن المعنى: يغفر لمن تاب، وقد يغفر لمن لم يتب، فالمعنى: يغفر جزماً لمن تاب؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، سواء من الكافر أو غيره، قال تعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))[الزمر:53] أي: لمن تاب، وقال: ((
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))[الزمر:53] أي: لمن تاب، فالمعنى: توبوا إلى الله تبارك وتعالى، ولا تقنطوا من رحمته، وأنيبوا إليه وأسلموا له، فإذاً: لا تعارض، فإن الله تبارك وتعالى يفتح باب الرجاء ويحض على الاستغفار ويقول: ((
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ))[طه:82] وهذا في مقام الحض على ذلك، وبيان أهمية الاستغفار، لكن رحمة الله أيضاً أوسع، وفضل الله أعظم؛ فمع أنه يقبل التوبة ويغفر الذنب لمن تاب، فإنه كذلك يغفر كثيراً ويعفو عن كثير من الذنوب وإن لم يتب صاحبها، وهذا محض الجود والكرم، ولذلك كان مذهب
أهل السنة والجماعة في صاحب الكبيرة على خلاف مذهب
الخوارج و
المعتزلة ، هو أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة؛ لقوله تبارك وتعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ))[النساء:48] أي: (قطعاً) ((
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] فبعض أهل الكبائر يدخلون النار؛ لأن المغفرة لهؤلاء هي تحت المشيئة، فمن شاء غفر له، فبقي من لم يغفر له يدخل النار ولابد، فبهذا ظهر الفرق بين
أهل السنة والجماعة من جهة وبين
المرجئة و
المعتزلة من جهة، وبين غالية
المرجئة من جهة أخرى، وهذا هو حال أهل الكبائر من حيث الجملة، ولذا قلنا: إن الله تعالى قد يغفر لمن لم يتب، و(قد) معناها حصول ذلك للبعض.إذاً: يكون حال أهل الكبائر على مذهب
الخوارج و
المعتزلة أنهم كلهم في النار، ولا أحد يدخل الجنة منهم، وعند
المرجئة أنه يجوز -ولا يجزمون- أن لا يدخل النار أحد من أهل الكبائر، بخلاف
الخوارج و
المعتزلة فيقولون: يجب أن يدخل النار كل أصحاب الكبائر فقابلتهم
المرجئة وقالت: يجوز أن لا يدخل النار أحد من أهل الكبائر فيكونون في الجنة، أي: أن رحمة الله تشملهم جميعاً، ولكن
أهل السنة والجماعة قالوا: نحن نجزم أن بعض أهل الكبائر يدخلون الجنة، وبعضاً منهم يدخلون النار ثم يخرجون منها.فعندما تقول
المرجئة أن قول الله تبارك وتعالى: ((
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ))[غافر:3] هو عطف تكرار لا عطف مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه جوابه: أنكم أخطأتم في ذلك، فإنه يغفر الذنوب لمن يشاء، ويقبل التوبة ممن تاب فهذا غير هذا.يقول المؤلف: [وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط كقول:
وألفى قولها كذباً ومينا] وهذا في لغة العرب لا يعد بلاغةً أي: ليس هناك أي نكتة بلاغية أو بيانية، بل ذلك لمجرد تنوع في اللفظ، وهذا وإن كان من أضعف الأساليب، ولكن يستخدمه الشعراء مراعاة للضرورة الشعرية فقط كقوله:
فقدمت الأديم لراهشية وألفى قولها كذباً ومينا وهذا من شعر
عدي بن زيد العبادي في قصة الملكة
الزباء عندما غررت به بـ
جذيمة بن الأبرش في قصته في كتب الأدب من حمل الرجال داخل الصناديق كأنهم غلال أو أموال أو متاع إلى آخره، فالمقصود قوله: فألفى قولها كذباً وميناً، والمين هو الكذب، وإنما جاء بذلك لضرورة الشعر، وهذا كثير، والخطباء يكررون بعض العبارات وهي واحدة كما يقتضيه الأسلوب الخطابي إن كان له سراً ومعنى وحكمة، وإلا فإن العطف لمجرد اللفظ فقط يدل على ضعف في الأسلوب، أما إن كان له حكمة أو معنى فيكون من التكرار للإيضاح، ولزيادة تأكيد الصفة، ولذلك يقول المؤلف رحمه الله: [ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك] فالقرآن لا يمكن أن يكون فيه شيء من غير حكمة ومن غير سر بياني، ولا يتكرر في القرآن شيء بمجرد لفظ، بل لا بد أن له حكمة وبلاغة في الذروة، ولا يمكن أن يوصف القرآن بأن في أسلوبه ضعفاً أبداً، ثم ذكر الشيخ مثالاً لذلك بقوله: [(قوله تعالى: ((
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ))[المائدة:48]] قالوا: والشرعة هي المنهاج.فقالوا: هنا تكرار، فيجوز أن يعطف لمجرد التغاير اللفظي فقط، والجواب عن هذا أن يقال: إما أن يقال بأن الشرعة هي المنهاج، ولكن التكرار له فائدة عظيمة، وهي تأكيد المعنى، فالمعنى: فهؤلاء لهم شرعة، ومنهاج وهؤلاء لهم شرعة ومنهاج، فعندما يعطف ويكرر اللفظ فيدل على أن هؤلاء غير هؤلاء، وهو زيادة في بيان الفرق بين هذه الأمة وبين من سبقها من أهل الكتاب، وهذا أقوى؛ لأن الصفات كلما تعددت كلما كانت الفوارق أكثر.وإما أن يقال: لا يمكن أن يكون في القرآن تكرار قط، بل هذا له معنى، وهذا له معنى، والشرعة والمنهاج قد فسرت بالسبيل والسنة كما قال
عبد الله بن عباس رضي الله عنه: [
أي: جعل الله تعالى لكل سبيلاً وسنة طريقة وهدياً ]، فيمكن أن تفسر بأن تكون الشرعة هي الأحكام الظاهرة والالتزام بالحدود، والمنهاج هو الالتزام بالباطن والهدي، ولا شك أنه في لغة العرب لابد أن تكون هناك فروق، والصحيح الراجح أنه لا يوجد في لغة العرب ترادف مطلق، وهذا هو الذي يميل إليه أكثر اللغويين، فالعرب لا تجعل الترادف مطلقاً ولابد أن هناك اعتباراً معيناً، ولهذا يقول بعضهم: إن هناك فرقاً بين البدر والقمر والهلال، فإذا قلت الهلال فهو الناقص، وإذا قلت البدر فهو التام، وكذلك السيف له في لغة العرب مئات الأسماء، ولكن السيف ليس له اسم واحد، بل يختلف بحسب وصفه وجودته ونوعته، فللغضب يقال: الباتر والصارم، وهكذا في الأوصاف المتكررة، والعرب قد سمت الأسد والشمس والسيف وغيرها بما يقارب أربعمائة اسم أو خمسمائة اسم كما قاله بعضهم، لكن كل اسم منها أو وصف منها له دلالة خاصة تختلف عن الأخرى؛ ولذلك يقول المؤلف: [والكلام على ذلك معروف في موضعه، فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع كيف ورد فيه الإيمان؟ فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر والتقوى والدين ودين الإسلام] فبين أنه إذا كان العطف في الكلام يكون على عدة وجوه فإننا ننظر في كلام الشارع كيف ورد فيه لفظ الإيمان، فإذا نظرنا وتأملنا ذلك في كلام الشارع وموقعه في هذه الأنواع الأربعة سنجد أنه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر والتقوى والدين ودين الإسلام.إذاً: فهو من الألفاظ التي تتنوع دلالتها بالإفراد والاقتران وهذا قد تقدم. يقول المؤلف: [ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية: ((
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177]، قال
محمد بن نصر المروزي حدثنا
إسحاق بن إبراهيم حدثنا
عبد الله بن زيد المقري و
الملائي قال: حدثنا
المسعودي عن
القاسم قال: (
جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله تعالى عنه فسأله عن الإيمان، فقرأ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ.. ) إلى آخر الآية فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها، وإن عمل السيئة ساءته وخاف عقابها) وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب]، وقدُمت هذه الآية لفضلها وشرفها لكونها من القرآن، وإلا فالحديث فيه كلام، وهذه الآية ذكرها الإمام
البخاري رحمه الله تعالى أيضاً وترجم بها في أول كتاب الإيمان في معنى الإيمان، لكن الحديث بالوقف أشبه منه بالرفع، وفي صحته كلام، والجماعة الذين أشار إليهم بأن جماعة من السلف أجابوا بذلك منهم
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولا مانع أن تتوارد خواطرهم وأذهانهم وأن يجيبوا بجواب واحد، قال الشيخ
ناصر عن هذا الحديث: ضعيف للانقطاع، فالتفسير صحيح أي: تفسير الإيمان بالآية صحيح وحق، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب به فلا؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وهذا ذكره
الحافظ في
الفتح عند ذكر
البخاري رحمه الله هذا، لكن كون الإيمان هو البر فهذا حق، وكونه هو ما ذكره الله تبارك وتعالى فهذا صحيح. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.