أما الثالثة من مراتب العطف فهي قول المؤلف: [الثالث: عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238]] فالصلاة الوسطى هي من الصلوات، ومثله قوله تعالى: [(( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ))[البقرة:98] وجبريل وميكال هما من الملائكة، وكذلك قوله تعالى: (( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ))[الأحزاب:7]] ثم قال بعد ذلك: (( وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ))[الأحزاب:7].
فهذه النصوص نجد فيها عطف بعض الشيء على الشيء كله، يقول المؤلف رحمه الله: [وفي مثل هذا وجهان] يعني: أن عطف بعض الشيء عليه يخرج بأحد وجهين:
قال: [أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول، فيكون مذكوراً مرتين] فمثلاً قوله تعالى: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ))[البقرة:238] أي: كلها (( وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238] وهي من الصلوات، فتكون قد ذكرت مرة أخرى لنكتة بلاغية، وهي الاهتمام بها، وضرورة المحافظة عليها، والتأكيد عليها، وهي صلاة العصر كما هو أشهر الأقوال، وقيل: الصلاة الوسطى بمعنى: الفضلى المتميزة كما قال تعالى: (( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ))[المائدة:89] قال بعض العلماء: أي: من أفضله ومن أجوده، فالوسط يأتي في لغة العرب بمعنى: الأفضل والأجود، كما جاء في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله من أوسطهم نسباً أي: من أشرفهم نسباً.
فالصلاة الوسطى بالمعنى الأول أو بالمعنى الثاني تكون قد تكرر ذكرها مرتين، وإن كان الأظهر من كلام العلماء وهو ما تؤيده أحاديث صحيحة هو المعنى الأول، أي: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فالصلاة الوسطى تكرر ذكرها؛ لأنها ذكرت في جملة الصلوات وهذا هو الذكر الأول لها، وذكرت منفردة وهو الذكر الآخر.
قال: [والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً] فالصلاة الوسطى على هذا ليست داخلة في عموم الصلوات، وجبريل ليس داخلاً في عموم الملائكة، ولكن المعنى في الآية: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) وخص الصلاة الوسطى وهي ليست داخلة في المأمور به، والأمر بها إنما هو أمر مستقل معطوف على ما قبله، وكذلك قول الله تبارك وتعالى: (( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ ))[البقرة:98] لا يدخل جبريل في هذا الخطاب حتى جاء منصوصاً عليه بنص جديد، فليس داخلاً فيه، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، فلو لم يذكر لدخل فيه.
قال: [كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوه مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران] وموضوع الإفراد والاقتران هو مذكور في أول كتاب الإيمان الكبير لـشيخ الإسلام.
والألفاظ التي تتنوع دلالتها بالإفراد والاقتران هي مثل لفظ البر، والتقوى، والتوبة، والاستغفار، وكذلك لفظ الفقير، والمسكين، والقضاء والقدر، والإثم، والعدوان، والسيئة، والمعصية، والإيمان، والإسلام، والفحشاء، والمنكر، فمثلاً إذا أفردنا الفحشاء فالمنكر منها أو المنكر فالفحشاء منه، وإذا ذكرنا الإثم فالعدوان منه وإذا ذكرنا البر فالتقوى منه وهكذا، فإذا اقترنا فلذلك دلالة، وللآخر دلالة أخرى، فخلاصة الوجه الثاني أن هذه الألفاظ مما تتنوع دلالتها بحسب الاقتران والإفراد فلا تكرار ولا مغايرة على هذا؛ لأنه كما ذكرنا في قوله تعالى: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238] أن المعنيين مختلفان، إذاً: فالمغايرة حاصلة، وقوله تعالى: (( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ))[البقرة:98].
كذلك المغايرة حاصلة هنا فلم يكن جبريل داخلاً ولا مذكوراً، والسر أو الحكمة من عطف بعض الشيء عليه هو بيان أهميته، فمثلاً الصلاة الوسطى ليس تركها كترك أي صلاة من الصلوات، وعداوة جبريل عليه السلام ليست كعداوة أي ملك من الملائكة، ومثل ذلك الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على أولي العزم وهم الخمسة المذكورون في آية الأحزاب في قوله تعالى: (( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ))[الأحزاب:7] فليس أخذ العهد منهم أو الميثاق مثل أخذ العهد من بقية الرسل، فهؤلاء الخمسة متميزون عن سائر الرسل؛ لأنهم هم أولو العزم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: (( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ))[الأحقاف:35].
وصلاة العصر أيضاً قد ورد في فضلها أحاديث كثيرة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله )، ووتر أي: فقد أهله وماله كما قال امرؤ القيس:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتور
أي: الذي قتل أبوه، فلو أن إنساناً ترك صلاة العصر فخسارته بتركها كما لو فقد أهله وفقد ماله، فكيف تكون مصيبته، وكم يعزيه الناس؟ وتظل ذكرى تلك اللحظة في قلبه إلى أن يموت، فيتذكر هذه المصيبة وأن الناس كانوا يتألمون ويعزونه فيها، وهذا التشبيه يدل على أهمية صلاة العصر، وما أكثر من يتقاعس عنها، فمن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله، مع أن ترك الصلاة يحبط العمل، لكن تخصيص صلاة العصر بالذكر لأهميتها، فإذا أفردت فلأهميتها ولمعنى خاص فيها ليس في غيرها، وفي فضلها يقول صلى الله عليه وسلم: ( من صلَى البردين دخل الجنة ) هذا بالنسبة لأهمية صلاة العصر.
وأما بالنسبة لمكانة جبريل عليه السلام واختصاصه عن سائر الملائكة فإن الآية نزلت حينما قال اليهود قبحهم الله: ( يا محمد! من الذي يأتيك بالوحي من الملائكة؟ قال: جبريل، قالوا: ذلك عدونا من الملائكة ) واتخذوه عدواً؛ لأنه نزل بكل ما أنزله الله تبارك وتعالى في بيان شنائع اليهود وفضائعهم وكفرهم وكفرانهم وجحودهم على موسى أو على عيسى أو على محمد صلى الله عليه وسلم؛ هذا من ناحية، وأما من الناحية الأخرى فإنهم يعادونه ويكرهونه؛ لأنهم يكرهون ذرية إسماعيل حسداً من عند أنفسهم، فيحسدون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحسدون العرب أن تكون الرسالة فيهم ولذلك عادوه، فيعادونه لهذه الأسباب مجتمعة فجعل الله تعالى عدواة جبريل أعظم من عدواة غيره، فإن من يعادي الملائكة وهم عباد الله المكرمون، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فهذا لا شك أنه يعادي رب العالمين، وهو عدو الله، وإلا فكيف يعادي هؤلاء الذين هم بهذه المنزلة من الله تبارك وتعالى، ولا تصدر منهم معصية؟! وكيف تعاديهم وهم يعبدون ويسبحون له؟ فإذا كان المبغض والمكروه منهم هو جبريل عليه السلام ففيه هذا المعنى وزيادة أمين الوحي والروح الأمين الذي قال الله تعالى فيه: (( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ))[الشعراء:193] وهو الذي ينزل على الرسل بالوحي كما قال ورقة بن نوفل : [ إنه الناموس الذي نزل على موسى ]، فكل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما يأتيهم بهذا الدين جبريل عليه السلام، فهو رسول الوحي، وهو أشرف الملائكة، وهو سيد الملائكة، فكما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل وأعظمهم شرفاً، فكذلك جبريل عليه السلام هو أفضل الملائكة وأعظمها شرفاً، واليهود أكثر ما يعادون من البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما يعادون من الملائكة جبريل عليه السلام.
فعطف بعض الشيء عليه سواءٌ قلنا: إنه داخل فيما قبله أو غير داخل وإنما هو من باب تنوع دلالته بالإفراد والاقتران، فإنما يذكر لخاصية فيه، وأهمية استوجبت ذكره.