الحالة الثالثة: أن يذكر الإيمان ويذكر معه العمل، وهذا هو موضع النزاع، وهذا هو الذي يجادل فيه المرجئة ويقولون: أنتم قلتم: إن الإيمان يشمل العمل، فماذا تفعلون في الآيات التي يذكر فيها الإيمان، ثم يُعطف عليه العمل؟ فهذا يدل على أن الإيمان شيء والعمل شيء آخر.
وقد استدل هؤلاء بظواهر قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ))[الكهف:107]، وقوله تعالى: (( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))[العصر:1-3]، وقوله تعالى أيضاً: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ))[مريم:60] وهذا كثير في القرآن وفي هذه الحالة لا مانع أن يفسر الإيمان بالتصديق والإقرار الباطن، وأن يفسر العمل بالامتثال ظاهراً أو باطناً، كما فسر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هذه الآيات، فيكون قول الله تعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[الشعراء:227] معناه: الذي صدقوا بالحق، وامتثلوا له وأذعنوا وانقادوا له وقبلوه، ثم بعد ذلك نرد على المرجئة بأن هذا لا يلزم منه أن العمل مغاير للإيمان، ولكنهما يذكران معاً على سبيل التلازم بينهما، والتنبيه على أهمية العمل، ولذلك كله مع العمل أسرار وحكم، وهذا هو الجواب العام، ولكن لا مانع -كما قلنا- من الرد بما في تفسير الطبري أن كثيراً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم يفسرون الإيمان في مثل هذه الآيات بالإقرار أو التصديق، ويفسرون العمل بالامتثال، فالإيمان عمل القلب، والعمل عمل الجوارح، فمن علم وأقر وصدق، ثم امتثل وانقاد، وفعل المأمورات، واجتنب المحرمات وابتعد عنها فهذا هو المؤمن الذي جمع بين التصديق وبين الامتثال، لكن هل تفسير الإيمان بالإقرار والتصديق يعني أن العمل خارج عن اسم الإيمان وحقيقته؟
الجواب: لا.
يقول المؤلف رحمه الله: (وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان) أي: كما يقول المرجئة (فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال الله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] وقال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15]، وقال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ))[النور:62]، وقال: (( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:81]) كما في آيات الموالاة في المائدة وهكذا.
إذاً: مراد الشيخ من هذا أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال، فكان الأقوى أن يقول: لأنها جزء من حقيقته، لكنه يأتي في مقام النقاش بما لا يختلف عليها أهل السنة ولا المرجئة بل يقبله الطرفان، وهو أن الإيمان مستلزم ومتضمن للأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) وقد تقدم الكلام في هذا، وأن له عدة معانٍ، وذكرنا ما هو الراجح من تلك المعاني، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أفشوا السلام بينكم )، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من حمل علينا السلاح فليس منا )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا ) وفي ورواية: ( من غش فليس منا )، وهذه الرواية أعم، أي: فلا يجوز غش أي شخص، ولو كان من أهل الكتاب، ويوضح هذا سبب الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مر بصاحب الطعام فأدخل يده الشريفة صلى الله عليه وسلم فوجد بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته سنة -يعني: مطر، وأراد أن يخفي العيب- فقال: من غشنا فليس منا )، وهذا وقع في المدينة التي كان يكثر فيها أهل الذمة، والإسلام دين الإنصاف، حتى لو كان التبايع مع يهودي فإنه لا يجوز الغش.