يقول رحمه الله: "وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه" لا بد من العدل، لأن ديننا دين العدل؛ لأنه به قامت السماوات والأرض، وإن لم يعدل المسلمون فمن يعدل؟! وإن لم يعدل
أهل السنة فمن يعدل من الطوائف؟!
فأولى الناس بالعدل هم أولئك الذين قال الله لهم: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ))[المائدة:8] وفي الآية الأخرى: ((
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ))[النساء:135] فلا بد من الشهادة لله والقيام بالقسط في جميع الأمور، ولا بد من ضبط الميزان؛ قال تعالى: ((
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ))[الرحمن:9].
ولا يجوز أن يكون في الإنسان صفة التطفيف، فالمطففون ذمهم الله وعابهم.
ومع أن النهي الوارد في القرآن عن التطفيف نزل بخصوص التطفيف في المكيال والميزان المعروف عند الناس، إلا أنه يدخل فيه التطفيف في وزن الناس: الأفراد أو الطوائف، فلا بد أن يكون للإنسان ميزان واحد، بعض الناس إذا رضي قال خير ما يعلم، وإذا غضب قال شر ما يعلم، وهذا ليس ميزاناً عادلاً، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر.
ويجب على المسلم أن يكون عادلاً ولو في حق ذي قربى؛ قال تعالى:: ((
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى))[الأنعام:152] وهذه الوصية هي من الوصايا العشر.
ومن أساسيات هذا الدين العدل وعدم التطفيف: ((
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ))[الأعراف:85].
والبخس ليس أن يقتطع الإنسان شيئاً من أموال الناس أو من كيلهم ووزنهم فحسب؛ بل إن من بخس الناس أشياءهم أن تعلم أن في إنسان ما خيراً وتقول: فعل كذا وكذا من المنكرات.! قد تكون صادقاً أنه فعل ما يذم عليه، لكنك أغفلت ما يحمد عليه ويمدح به، ولا نقصد أن يقول الإنسان في كل وقت كل ما يعلم؛ بل إننا نقصد أنه عند وجود المقتضي والداعي للتقويم وللوزن، فعلى الإنسان عندها أن يزن بالحق وبالقسطاس المستقيم.
أما إذا رأيت إنساناً فيه فضيلة، لكنه فعل ما يُلام عليه، فلمته ولم تذكر فضيلته، فإنه غالباً لا يقبل منك إنكارك عليه وعيبك وذمك له بأنه لم يفعل ذلك المعروف؛ لأنك أغفلت الفضيلة.
ولو قلت: أنت فعلت كذا وكان حقاً، وفعلت كذا وكان غلطاً، لوجد نفسه ملزماً بذلك، وتكون قد أقمت عليه الحجة، فإن أنكر بعد ذلك وكابر، فإنه في قرارة نفسه يعلم أنك أنصفت ولم تظلم.
التطفيف والطغيان في الميزان هو من أعظم الغش، وليس الغش محصوراً في الطعام، وإن كان ذلك هو سبب ورود الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الغش؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدخل يده في الطعام، ووجد في أسفله بللاً، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟! من غش فليس منا} وفي رواية: {من غشنا فليس منا}....
إن من غشنا في ديننا، ولبس علينا أحكام شرعنا، فجعل الحلال حراماً والحرام حلالاً؛ هو بلا ريب أغش من ذلك الذي غشنا في الطعام؛ إذ بالغش في الطعام قد تسقم الأبدان، لكن بالغش في الدين تمرض القلوب والأديان، والدين هو أغلى من كل شيء.
يجب أن يكون العدل هو المعيار والميزان في تقويم الأفراد والجماعات؛ كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الفاعل الواحد والطائفة الواحدة ينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها.
فلا نجعل المعتزلة كلهم سواءً؛ فإنهم -أي المعتزلة- مختلفون؛ فمنهم من كان ذا عبادة واجتهاد، ومنهم من كان ماجناً فاسقاً لا يصحو من الشراب؛ فلابد أن نبين ما في هذا وما في هذا، مع أن بدعتهم في الأصول الخمسة سواء، لكن لا بد أن يقال: ذاك فيه كذا، وهذا فيه كذا.
وكذلك الصوفية وغيرهم من الفرق.
فأي إنسان كان منتمياً إلى طائفة أو نحلة، وله شيء من الخير والفضل، فلا بد عند الحديث عنه من ذكر ذلك الخير والفضل الذي فيه.
هذا كتاب الله بين أيدينا قد ذكر الله فيه شنائع أضل أمة؛ وهي الأمة الغضبية؛ اليهود قبحهم الله؛ ومع ذلك قال: ((وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ))[آل عمران:75] فمنهم أناس أمناء، ((وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ))[آل عمران:75] وأين الدينار من القنطار؟! فهناك أمين وهناك خائن؛ هذا موجود وهذا موجود.
وقال تعالى عن أهل الكتاب أيضاً: ((لَيْسُوا سَوَاءً))[آل عمران:113] فهم من حيث التعامل والصفات الفردية والمزايا الشخصية وما إلى ذلك ليسوا سواءً، وإن كانوا جميعاً كفاراً، فالمعايير المطلقة نقولها بإطلاق، لكن عند ذكر المزايا الشخصية التي يختص بها فرد أو طائفة يقال: هذا غير ذلك، كما أنك قد ترى أن الكاثوليك في بعض الأشياء عندهم مزية ليست عند البروتستانت والأرثوذكس، وكلهم نصارى، فيعطى هؤلاء قدرهم وهؤلاء قدرهم، وهذا هو دين الله وشرعه تعالى.
يقول رحمه الله: "وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق" أي: إذا لم يعرف الإنسانُ الممدوحَ من المذموم، ولم يستطع أن يعرف المنكر من المعروف، فعليه أن يستبين حتى يتبين له الحق، فلا ينطق ولا يقل إلا الحق "فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله".